مقالٌ آخرُ عن تنظيم مقاتلٍ بمرجعيّة إسلاميّة، ما الفائدة في ذلك؟ قد يخطرُ هذا السؤال في ذهنِ أي إنسانٍ سواءً كان يتابعُ النتاجَ الثقافي أو معرِضًا عنه، فليس ثمةَ إغراءٌ كبيرٌ –لعموم الناس- في متابعة أخبار تنظيمات باتت –برأي كثيرين- في عداد الآفلين، وبكل تأكيدٍ فإن هذا التوجّه لا يختصُّ بنمطٍ واحدٍ من الناسِ، بل يمتدُّ إلى أنحاء مختلفة منها وسائل إعلامٍ متعددة الألوان والتوجهات، وربما إلى مراكز دراسات لا تجدُ في متابعة هذه الحركات فائدةً تدرّ عليها استثمارًا أو تمويلاً، لكونها أقرب إلى بؤرة مقاولاتٍ تتعهّد العمل في النطاق البحثيّ بحسب توجّهات "الزبائن"، ولأجيبَ عن السؤالِ الذي قدّمته آنفًا، أقترحُ عليك أن تكمل قراءة هذا المقال لتضعَ يدكَ على الأهمّيّة ضمن السياق.
بدايةٌ جديدة أم نهايةٌ لمرحلة قديمة؟
في شهر نيسان من عام 2020 -بحسب مصادر خاصة- ضمّ اجتماعٌ فاصلٌ شخصين من ذوي الشأن في التيّار الجهاديّ داخل سوريّا، دار النقاش "المتشنّج" حولَ ضرورة تقبّل الاستراتيجيّة الجديدةِ لهيئة تحرير الشام، بين مقتنعٍ مدافعٍ وبين رافضٍ يرى في النمط الذي تتّبعه الهيئة طريقًا لتمييعِ "الجهادِ"، ويرى في مواجهتها والتكتّل ضدّها الطريق الأمثلَ لإعادة تفعيل حضور التيّار "الجهاديّ" في البلاد، خاصةً مع الانهيار الواسع في صفوف الفصائل المقاتلةِ أمام هجمة النظام المدعومة بالميليشيات الإيرانيّة والقصف الروسيّ الكبيرِ مطلع العام الفائت.
تعدّدت الاستجابات، فمن داعٍ إلى إعادةِ الهيكلةِ –كما في حال هيئة تحرير الشام- والانضمام لمجلس عسكريّ متماسكٍ يواجهُ أي مضاعفات مستقبليّةٍ –وخلف ذلك غايات واستراتيجيات بكل تأكيد-، وبين داعٍ لتفعيل حرب العصابات وإرهاق النظام دون اعتبارٍ لاتفاق موسكو بين الجانبين الروسيّ/التركيّ، كما نادى –على سبيل المثال- بذلك أبو همّام الشامي قائد تنظيم حرّاس الدين، في خطابه الشهير، "يا أهل الشام الثبات الثبات".
هيئة تحرير الشام التي قرأت تلك الخطوة بعدسة السعي للتنافس من ناحية، والحرص على ضبط أوتار الساحة بما يخدم توجهاتها من ناحية أخرى
كان الاجتماع المشار إليه لنقاش خيارٍ آخر، بتوجيهٍ من قيادات في تنظيم القاعدة، يتمثّل باندماج تنظيم حراس الدين مع عدة فصائل لتكوين جبهة مناهضةٍ للمشاريع الأخرى، ولم يكن من قبيل المصادفةِ فيما بعدُ ظهورُ غرفة "فاثبتوا" التي واجهتها هيئة تحرير الشام من الأيام الأولى للإعلان عنها.
تضارَبَت المشاريعُ إذا، فصائل عانت بأفرادها وقياداتها من التهميش والإقصاء في الساحة فارتأت التكتّل طريقًا للتفعيل من جهة، وهيئة تحرير الشام التي قرأت تلك الخطوة بعدسة السعي للتنافس من ناحية، والحرص على ضبط أوتار الساحة بما يخدم توجهاتها من ناحية أخرى، وقد كانت الإرهاصات التي تثبت ذلك كثيرةً بما لا يدع مجالاً للشكِّ في قرب المواجهة، بدءًا من الاعتقالات وانتهاءً بتقييدِ التحركات الاجتماعية والدعوية والاقتصاديّة للفصائل "الجهاديّة" –كما جرت العادة في التسمية-.
هذا السياقُ المحلّي توازى مع سياق آخرَ، يجري التخطيط له في دوائر القرار في الولايات المتحدة، فالفرصة متاحةٌ الآن لمواجهة تنظيم القاعدة باغتيال قياداته العسكريّة ذات التجربة والتأثيرِ، وقد كان السياق السوريّ الموضع الأهم، فاغتيلَت عدة قيادات فاعلة في تنظيم حراس الدين، كان أبو القسّام الأردني "خالد العاروري" أبرزهم –يتردّد الآن أنه ما زال على قيد الحياة- إلى جانب قيادات أخرى اغتيلوا في الصومال ومالي وطهران.
يتآزرُ المشهد السوريّ أمام قراءة هيئة تحرير الشام الآن، فليس أمام القَبول بها دوليًّا سوى بضع خطوات، ولا ضيرَ في أن تفكيكَ أو شلّ فاعليّة التنظيمات المنافسة ستحسَب في جانبِ "قَبول" تعريفها الجديد لنفسها، ومن هنا كانت حملة الاعتقالات التي لم تنتهِ –على ما يبدو- في صفوف حراس الدين أو مناهضيها من "المهاجرين" المستقلّين.
ما الجديد؟
في السياق السوريّ نرى أن الوضع الأمني والتنظيميّ لهيئة تحرير الشام استتبّ –أو يكاد- في إدلب، وهي على وشك تحقيق انفراجةٍ سياسيّة مع الدعوات المتكرّرة لقبولها دوليًّا –كان آخرها دعوة جيمس جيفري قبل أيام، أما النطاق العالميّ فقد بدأَ الحديثُ يتعالى حولَ تغيّر سياسة تنظيم القاعدةِ خاصّة مع الأنباء التي تتوارَدُ عن تولّي القياديّ المخضرم في تنظيم القاعدة "محمد صلاح عبد الحليم زيدان" الملقّب بـ "سيف العدل" زمام الأمور فيها، ذلك إثر سريان خبر وفاة د. أيمن الظواهريّ قبل شهور لأسباب مرضيّة.
يشاع لدى المتابعين أن سيف العدلِ يقيم في منطقةٍ جبليّة متاخمة للحدود الأفغانيّة على الجانب الإيراني، كما يشتهَر أيضًا دورُه في عقد علاقة قوية بين أبي مصعب الزرقاوي وبين قيادة القاعدة التقليدية، حيث أقنع بن لادن بضرورة استيعابه ودعمه تدريبًا وتسليحًا، وهو ما أسهم لاحقًا في ظهور تنظيم "التوحيد والجهاد" الذي تطوّر محلّيًّا ليؤول إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق، وبقيّة الأحداث معروفة.
يتفهّم التنظيم حالة الاستضعاف التي يمرّ بها في سوريّا، ويدرك كذلك حجم التحوّلات في المشهد السوري
يتولّى سيفِ العدل –إن صحّ ذلك- قيادة القاعدة وبين يديه ملفات عديدة، بدءًا من الاختراقات التي يعاني منها فرع اليمن، والحصار الذي يعانيه تنظيم "حراس الدين" في سوريا، مرورًا بتعزُّز النزعةِ للمحلّيّة في مالي، وصولاً لظهور جيل جديد من المقاتلين بعيدٍ عن قناعات القيادة "المخضرمة" وانتهاءً بحالة الصراع المستمرة –التي تغذيها عوامل محلية وفكرية- مع تنظيم الدولة.
تندفع التقديرات ههنا لقراءة مشهد التنظيم في إطارٍه العام والخاص، فما الجديد بهذا الشأن في سوريا؟
يتفهّم التنظيم حالة الاستضعاف التي يمرّ بها في سوريّا، ويدرك كذلك حجم التحوّلات في المشهد السوري، وما يؤكد على ذلك رسائل التثبيت التي ينشرها بين الفينة والأخرى –د. سامي العريدي- الشرعي العام لتنظيم حراس الدين.
لا ينفي ذلك رؤية التنظيم لساحة "الصراع" فأرض "الشام" ميدانٌ من ميادينه، وعلى التوازي منها مواطن كثيرةٌ يملك التنظيم القدرة على التحرك فيها، فمالي تشهد تصاعدًا لعمليّات فرعه "جبهة أنصار الإسلام والمسلمين"، أما الصومالُ فقد وصلت حركة الشباب فيها إلى مرحلة إقلاق سلطات الجوار، وربما سنشهد لها تحرّكًا واسع النطاق في العام الحاليّ في كينيا ومحاولةً للتمدّد إلى الجنوب من القرنِ الأفريقي، أمّا العلاقة المنسجمة مع طالبان فهي رهانٌ استراتيجي للاستمرار في شبه القارّة الهنديّة، إلا أنه ليس الورقة الأخيرة في إطار التنظيم.
يمكن أن نشهد انبعاثًا للتنظيم في ناحيةِ العمل العسكري والتنظيمي، إلا أن المتوقّع –لديّ- ترجيحُ التنظيم لاتباع استراتيجيّة "جهاد التمكين" وإقفال مرحلة عمليات "النكاية" والاستنزاف، وهذا يتطلّبُ تحوُّلاً نظريًّا كبيرًا..
قد تكون حكايةُ الاجتماع التي أوردتها قادحًا مهمًّا لهذا التوجّه، فقد انعقدَ إثر اتفاقية طالبان والولايات المتحدة، إلى جانب الإشارات المتتالية من قبل التنظيم المحلّي في مالي –المبايع للقاعدة- لخوضِ تجربة طالبان مرة أخرى لكن مع فرنسا في هذه الحالة، أما غياب القيادات التاريخيّة والفاعلةِ فهو دافع آخر يعزز ذلك الخيار، خاصة إن تأكدت التوجيهات المسبقة من قِبل "سيف العدلِ" نفسه لقيادة حراس الدين بعدم الاصطدام مع هيئة تحرير الشام تحت أي ظرف من الظروف، فهل يصبُّ تفكيكُ الحرّاس في سوريّا بتدعيم هذا التوجّه أيضًا؟