في الثاني من أبريل/نيسان الجاري عُنون تقريرٌ مطوّلٌ للصحفيّة بريانكا بوغاني، على موقع "فرونت لاين" بـ "زعيم سابق للقاعدة يسعى إلى قَبول أوسع في المقابلة الأولى مع صحفي أميركي". لم يكُن التقرير ليتحدث –بطبيعة الحال- عن أبي همّام الشامي قائد تنظيم حُرّاس الدين، إذ إنه بالرغم من ارتباطه القويّ مع القاعدة سابقًا إلا أن تنظيمه لم يتراجع عن العداء لأميركا، كما أنه يعاني من التفكّك من جراء عوامل عديدة أهمها ضغوط هيئة تحرير الشام عليه وحملاتها الأمنيّة لتفكيكه..
الحديث هنا عن اللقاء الشهير لأبي محمد الجولاني، حيث ظهر –للمرة الأولى- ببدلته الرسمية الباذخة مع الصحفي الاستقصائي مارتن سميث.
من ظلال القاعدة إلى الاستقلال والهيمنة
ينطلق التقرير من ماضي الجولاني الجهادي، فجولاته القتالية بين العراق وسوريا، وخريطة تنقلاته بين السجن عند الأميركيين والعيش في الميدان والوصول إلى مواقع قيادية داخل تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق، ملّكته خبرة واسعة وقدرة على التأثير، خاصّة مع كونه صاحب حجّة قويّة وبرهانٍ ناصع..
ما الذي يحتاجه جهاديّ للوصول إلى غاياته أكثر من ذلك؟
نفيرٌ في ظل الاحتلال، وسجنٌ مع قيادات المقاومة والقاعدة في العراق، واستمرارٌ في مهمّات ميدانية مع تنظيم الدولة وتحت مسمع ونظر قائده أبي بكر البغدادي، إنه الوقت المناسبُ لاقتراح إنشاء فرعٍ للتنظيم يتولّى بعثَ الجهاد في "بلاد الشام" وقيادته.
توافق القيادة، وترسل الجولاني –بمؤهلاته المذكورة- إلى سوريا، وبقيّة القصة معروفة!.
عام 2013 تصنّف الولايات المتحدة أبا محمد الجولاني على قائمة الشخصيات الإرهابية المطلوبة، وتتصاعد المكافآت المعروضة لقاءَ إيصالِ معلومةٍ تؤدي لاعتقاله!، إلى أن بلغت 10 ملايين دولار أميركي.
بالرغم من ذلك كله، فإن واقع الضفة الأخرى يوحي بأن دفّة مركب الجولاني قد تغيّرت منذ انحسرت رقعة سيطرة قوات المعارضة مقابل تمدّد سيطرة قسد ونظام الأسد في آنٍ معًا، كما أن رياح أستانة جاءت بما لا تشتهيه طموحات الزعامات المحلّيّة، فكان لا بدّ للجميع من انحناءة تمنح الأقوى منهم استفادة كاملة من الواقع الجديد..
لن يفوت الصحفيّة –بالمناسبة- التأكيد على أن "الجولاني زعيم التنظيم الأقوى والأكثر هيمنة في الأراضي السورية التي تسيطر عليها المعارضة"، ولمَ لا، فهو قائد التنظيم "الأشرس ضد قوات الأسد وحلفائه من الروس والإيرانيين، بل وحتى حلفاء الجولاني السابقين في تنظيمي الدولة والقاعدة على حدّ سواء.
مضامين اللقاء
في شهر شباط/ فبراير 2020 أصدرت مجموعة الأزمات الدولية تحليلاً تضمّن أجزاء من مقابلة لقائد الهيئة العام "أبو محمد الجولاني" أشار فيها إلى جملة من الوعود والرسائل كان أهمها التعهّد بعدم استخدام سوريا منطلَقًا لعمليات خارجية -رغم ارتباطه السابق بتنظيم القاعدة- سواء من قبل الهيئة أو أي فصيل آخر، والتركيز فقط على قتال النظام السوري وحلفائه، فالهيئة "مشروع مقاومة ضد النظام السوري والاحتلال الروسي والإيراني" ولا تطمح لأن تكون تنظيمًا عابرًا للحدود.
كان جليًّا في تلك المقابلة تأكيدُ مساعي الجولاني على تطوير خطاب الهيئة السياسي ببعدها المحلّي وهويّتها السورية باعتبارها فصيلاً يستند إلى الفقه الإسلاميّ المعتمَد في سوريا كسائر "الفصائل المعتدلة" الأخرى، وأن مرحلة "جبهة النصرة" كانت امتدادًا لظروف داخليّة وخارجيّة معيّنة أَمْلَت عليه مبايعة القاعدة والارتباط الاسميّ بها.
في التقرير الحالي الذي أعدّته محررة "فرونت لاين" فإن الجولاني يعيد التركيز على المضامين ذاتها بهدف بثّ رسائل متنوّعة للمتلقّي الغربيّ -الآخر- سواء كانَ من صانعي القرار أو الرأي العام، بحسب ما تتحفنا به المقتطفات المصوّرة مع مارتن التي نشرتها الصحفية في تقريرها.
"نحن جزء من الثورة السورية والتصنيف الإرهابي جائر وهو سياسي، بل إن نظام الأسد أولى بالتصنيف الإرهابي، فهو الذي يقتل النساء والأطفال والفقراء والأبرياء" هكذا يشرح الجولاني وجهة نظره في التصنيف الأميركي، متسائلًا: لماذا؟
توصل الهيئة اعتراضها هنا بلغة دبلوماسية على لسان قائدها، فهي لا تشكّل أي تهديد على المجتمع الغربي، بل إنها تعمل لمنع أن تكون سوريا منصة انطلاق لمهاجمة الدول الأخرى، وحتى حين كان الجولاني قائدًا لجبهة النصرة فإنه لم يكن من "سياسته ضرب الأهداف الخارجيّة" ولهذا يدعو الولايات المتحدة وبقية الدول التي تضعه وتنظيمه على القائمة السوداء أن تراجع سياساتها.
التدثّر بالسلطة
امدد نظرك الآن –قارئنا الكريم- إلى الاستراتيجية التي تتبعها قيادة الهيئة، سترى أنها تتركّز في قضية السعي للسلطة والبقاء، بدءًا من تعزيز حضور التنظيمات الإدارية التابعة لها، مرورًا بتصنيع صورة كاريزميّة متميزة وبرّاقة للجولاني، وصولاً لاتباع أقصى درجات الضبط الممكنة للقوة العسكرية بشقيها الحربي والأمني لتكون هرميّة بالكامل ومركزيّة في الآن نفسه، بحيث لو "انتقلت الهيئة من شكلها الحالي إلى أي شكل آخر فإنها ستنتقل "كُلًّا" دون القدرة على تفكيك أهم مفاصلها أو تذويبها"
ولنقف الآن عند حديث مارتن وأبي محمد، لنسأل ما الرابط بين سياسة الهيئة وتقلباتها إذًا؟
من المفيد التأكيد على أنه يجمع حديث الجولاني وسياسة الهيئة العامة خيط ناظم، وهو الوصول لأكبر قدر ممكن من السلطة والتأثير والبقاء، من القاعدة إلى رأس الهرم، وبكلّ تأكيدٍ فإن لكل موقع طريقة لإمساك هذا الخيط الناظم، ليسَ مردّها –في الجزء الأعظم- الإيديولوجيا، وإنما إلى الشبكات الاجتماعية والعلاقات العامة والحصول على الوجاهة والمقام على مستوى القيادات الصغرى، واستمرار التحكّم بموارد المنطقة، والسعي للسلطة الرسميّة واستمرار التأثير في المشهد السوريّ على نحو يعود بالنفع على المتحكمين بمفاصل الهيئة وشؤونها.
لهذه الاستراتيجية -على مستوى القيادة-مظاهر عديدة، لعل أبرزها إعادة تدوير الأشخاص، فعلى سبيل المثال: يعزَل أحد القيادات من منصبِه، بعد خسارة قطاع حلب الذي كان يعد الأكثر أهميّة إلى مطلع 2020، لكن الإجراءات لن تتجاوز ذلك، فأبو إبراهيم سلامة سينقل ليكون المسؤول عن المطبخ العسكري في الهيئة!
ربما هو منصب شكليّ لا أكثر، لكنه يؤكد لك أن شخصًا بأهميّة أبي إبراهيم لن تستغني عنه قيادة الهيئة، فهو مهمٌ لبقاء التوازن موجودًا بين "مكوّناتها"..
حين يعلن أبو مالك التلّي استقالته، تتسارع الدعوات لعودته والتراجع عن قراره والتعهّد بالإبقاء على مكانته موفورة، بالتوازي مع الضغط المعنوي على الكتائب والشخصيات المؤثرة القريبة منه، لتؤدّي فرض الطاعة بعدم الانفكاك عن الهيئة حين اللزوم، وقد تحقق ذلك، فحين انضمّ التلّي لغرفة "فاثبتوا" كان اعتقاله أهون مما تتخيّله التكهّنات، ولم لا يكون ذلكَ، فقد أدّت ماكينة العلاقات والإغراءات في إبعاد مكوّنات قوة أبي مالك عن التأثير.
حقوق الإنسان والحرفية الإدارية
لن أدفعكَ للاستفهام طويلاً، بل سآخذ بيدك لصلب المقصد، أترى الجولانيّ حين أجاب عن النماذج المحدّدة التي سأله عنها مارتن، مثل نور الشلو وتوقير شريف وبلال عبد الكريم!..
لقد قدّم لكلٍّ منها جوابًا متقنًا مليئًا بالثقة الشبيهة بتلك التي تعوّد عليها السوريّ أثناء مقابلات المسؤولين السوريين على شاشات التلفزة المحلّية، لكنها للأسف لا تعطي من الواقع شيئًا، إنها تصل إلى كائن ما من ضفة أخرى، ليسمع ما تريد الهيئة أن يسمع، لا ليصل إلى الحقيقة، بل ليقتنع بما يُقَدّم له، بالرغم من أنه لا يمكن الوصول للحقيقة عبر الإعلام الرسمي لأي دولة أو جهة كانت.
في سياق حديث الجولاني ربط الإرهاب –وهو محقّ- بازدواجيّة المعايير، فإن كانت الهيئة في نظرِ الغرب تنظيمًا إرهابيًّا، فماذا عن الأسد؟ ألم يقم بمجازر بحق الإنسانية لا يمكن إحصاؤها..
هنا يستغل –بذكاء- هذه النقطة ليؤكّد الجولاني أنه يمتلك حضورًا إداريًّا منضبطًا لا يمكن له أن يتجاوزه، فلا سجون خاصة لفصيله، ولا تعذيب بكل تأكيد، إلى جانب أنه فصيل مقاوم يحمي ملايين الناس من ظلم النظام والاحتلال الروسي والإيراني الذي يقف بكل تأكيد أمام مصالح السوريين والأميركيين على حدّ سواء..
خلاصة القول
تتوقع الهيئة أن استمرارها –بشكل أو بآخر- أمرٌ مرغوب به من قبل المجتمع الدولي لدواعٍ متعدّدة كتعقُّد الصراع وتشابكه في الساحة السوريّة والحاجة الماسّة لفصيل قويّ يضبط الساحة الجهاديّة ويستطيع مواجهة أي انبعاثٍ لتنظيم الدولة أو أي فصيلٍ آخر، وبالتالي فإن الإبقاء عليها مقابل إقدامها على إجراء تحولات تنظيمية واندماجاتٍ تزيد من قوتها –في الحقيقة- سيسوّغ لتلك الأطراف طيّ صفحة تصنيف "هيئة تحرير الشام" على لائحة الإرهاب..
جهود الهيئة لن تضيع سدىً على ما يبدو، فحملة تعويمها دوليًّا انطلقت منذ سنتين، وها هي الآن باتت على عتبة تحقيق القبول الدولي بها، ولن يثير استغرابنا في هذا المجال ما قاله جيمس جيفري من أن التعامل معها "رصيد استراتيجي للولايات المتحدة" لأن ما قاله نتيجة لا سبب لبناء هذا التصور، ومما يسند هذا التصور استتباب الوضع الأمني والتنظيمي للهيئة في إدلب –بل وفي الشمال كلّه-، وأن ضغط الواقع يستلزم الاعتراف بها شريكًا في المستقبل، بعد التغيرات التي أجرتها في مواقفها وسلوكها، إلا أن الإخراج النهائيّ لهذا الاعتراف ما زال غير معروفٍ في زمنه وشكله على وجه التحديد أو التقريب..