"ما هو غير قانوني نقوم به على الفور، أما بالنسبة لما هو غير دستوري فقد يستغرق وقتاً أطول قليلاً". كانت تلك واحدة من أهم الاقتباسات التي يتداولها مجتمع النخبة الأميركي عن هنري كيسنجر. بحسب بعض المصادر ذكر كيسنجر مقولته تلك لوزير الخارجية التركي عام 1975، حيث ناقش الرجلان سبل تجاوز الحظر الذي فرضه الكونغرس على مبيعات الأسلحة إلى أنقرة. لتغدو مع الأيام بمثابة طرفة ذات دلالات عميقة تستحق الوقوف عندها.
ما كانت هذه الجملة لتلفت الانتباه على نحو ما فعلت، لو أنها صدرت عن قاطع طريق أو مجرمٍ خارج عن القانون، أما وأنها صدرت عن وزير الخارجية الأميركي، وتم تداولها بألفة وبلا شعور بالاشمئزاز، فالأمر من ناحيتي جعلني أعتبرها، دون تحفّظ، بمثابة تمثيل أمين للأخلاقيات السياسية لدى معظم النخب الأميركية النافذة، دون تعميم مطلق بالطبع. بكل الأحول يرى كثيرون أن الاحترام الكبير الذي حظي به كيسنجر في أوساط تلك النخب الأميركية، والغربية عموماً، لأكثر من نصف قرن، رغم كل ما هو موثَّقٌ عنه، إنما يعود إلى أنه الممثل الحقيقي للسياسة الأميركية المتوحشة، بمعنى أنه لم يكن ضبعاً وسط قطيعٍ من الغزلان.
سيعلق "أبو الكلام عبد المؤمن" وزير خارجية بنغلاديش، التي دفعت بلاده مئات آلاف الضحايا من جرّاء سياسة كيسنجر، على وفاته بالديبلوماسية المألوفة لرجال السياسة، قائلاً "كان ينبغي عليه الاعتذار لشعب بنغلاديش عمّا فعلهُ. إن كيسنجر ارتكب أفعالاً غير إنسانية". لكن وعلى الرغم من أن أرقام ضحايا كيسنجر في جنوب شرق آسيا عموماً كانت الأعلى، فإن إرثه السياسي في أميركا الجنوبية يبقى الأكثر حضوراً في النقاشات السياسية والإعلامية.
كانت سياسة كيسنجر في أميركا اللاتينية قائمة على التدخل وتوجيه سياسات القادة الديكتاتوريين هناك، مع تجاهل تام للقمع والانتهاكات. الأمر الذي أدّى في النهاية إلى بدء حركة شعبية أميركية واسعة النطاق، لإضفاء طابع مؤسسي على قضية حقوق الإنسان، وجعلها أولوية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وهو المُعلن على الأقلّ. للمفارقة، فإنه مع بدء الكونغرس في إقرار قوانين تقيّد المساعدة الأميركية للأنظمة التي تمارس الانتهاكات، تصاعد ازدراء كيسنجر أكثر لقضية حقوق الإنسان.
ظهر استعداده لتأييد وقبول التعذيب والإخفاء وحتى القتل الجماعي على يد الأنظمة العسكرية المناهضة لليسار، في العديد من الوثائق الأميركية التي رفعت عنها السرية. جاء ذلك إثر سحب 30 ألف وثيقة كان كيسنجر يحتفظ بها ويرفض تسليمها باعتبارها شخصية! إلى أن تراجعَ وسلمها، بعد وصول الأمر إلى القضاء الأميركي. على أفضل ما في تلك الوثائق، اعتمد كيسنجر في كتابة مذكراته الانتقائية، وكان من الكتب الأكثر مبيعاً في حقله. لكن نشر تلك الوثائق لاحقاً، وفيها تسجيل لكامل اجتماعاته ومكالماته، كان كارثة حقيقية على مصداقية الكتاب الذي بدا، بعد تداولها، مغرقاً في الكذب.
ورد في إحدى الوثائق توبيخ كيسنجر لمساعده هاري شلودمان، بعد علمه أن مكتب أميركا اللاتينية التابع لوزارته، قد أصدر مذكرة تحذيرية إلى المجلس العسكري الأرجنتيني حول تصعيد عمليات فرق الموت والإخفاء، والتقارير عن التعذيب في أعقاب الانقلاب في مارس 1976. وقد نُقلت المذكرة إلى سيزار غوزيتي وزير الخارجية الأرجنتيني، كما سلّم أحد نوّاب شلودمان رسالة مماثلة إلى السفير الأرجنتيني في واشنطن. ينهي كيسنجر محادثته مع نائبه بالقول "أريد أن تقول لي، بأي طريقة يتوافق هذا مع سياستي؟ أريد أن أعرف من فعل هذا. يجب أن يتمّ نقله".
عاد غوزيتي إلى بلاده مبتهجاً بما سمعه من كيسنجر! لتتابع حكومته ما سوف يعرف بالحرب القذرة التي خلفت عشرات آلاف الضحايا من المدنيين الأرجنتينيين
بحسب وثيقة أخرى، كان هذا التوجه التحذيري يتناقض تماماً مع ما أبلغه كيسنجر إلى غوزيتي شخصياً. في لقاء مباشر في أحد فنادق نيويورك عام 1976، ناقشا فيه الحملة التي يشنها النظام العسكري الأرجنتيني لاستئصال اليسار، عرض كيسنجر خلال اللقاء دعم الولايات المتحدة التام "انظر، موقفنا الأساسي هو أننا نريد لك أن تنجح. لدي وجهة نظر قديمة مفادها أنه يجب دعم الأصدقاء. ما لا يفهمونه لدينا هنا في الولايات المتحدة، هو أن لديكم حرباً أهلية. ولذا نقرأ هنا كثيراً عن مشكلات حقوق الإنسان لديكم، دون معرفة المنتقدين لسياق تلك الأفعال. إذا كانت هناك أشياء يجب القيام بها، فيجب عليك القيام بها بسرعة. كلما نجحت بشكل أسرع، كان ذلك أفضل".
بعد أن وعد كيسنجر ضيفه أن وزارته لن تسبب للحكومة الأرجنتينية "صعوبات غير ضرورية"، طلب منه محاولة الانتهاء من العمليات الكبرى "قبل عودة الكونغرس للانعقاد" كي لا تُقرّ عقوبات على الأرجنتين. هكذا عاد غوزيتي إلى بلاده مبتهجاً بما سمعه من كيسنجر! لتتابع حكومته ما سوف يعرف بالحرب القذرة التي خلفت عشرات آلاف الضحايا من المدنيين الأرجنتينيين.
تسجل إحدى الوثائق رسالة احتجاجية من روبرت هيل السفير الأميركي في الأرجنتين أرسلها إلى الوزير كيسنجر إثر هذا اللقاء، مستنكراً عدم إبلاغ الوزير الأرجنتيني انتقاداً أميركياً شديداً حول الانتهاكات. "إن تصريحات غوزيتي لي وللصحافة الأرجنتينية منذ عودته ليست تصريحات رجل شعر بخطورة مشكلة حقوق الإنسان كما تُرى في الولايات المتحدة".
في لقاءاته الصحفية كان غوزيتي مرتاحاً ومطمئناً، ويبدو أنه كان كذلك حتى حين التقى هيل الذي أضاف في رسالته "رد فعل غوزيتي لا يشير إلى سبب وجيه للقلق بشأن قضية حقوق الإنسان. ذهب إلى الولايات المتحدة متوقعاً سماع تحذيرات قوية وحازمة بشأن ممارسات حكومته. وبدلاً من ذلك، عاد مقتنعاً بأنه لا توجد مشكلة حقيقية مع حكومة الولايات المتحدة بشأن هذه القضية". ويخلص هيل إلى أنه "طالما استمرت هذه السياسة، فمن غير الواقعي أن تقوم سفارتنا هنا، بتقديم أية احتجاجات بشأن انتهاكات حقوق الإنسان".
لم يكن من المستغرب ما كتبه "خوان غابرييل فالديس" سفير تشيلي لدى الولايات المتحدة، في اليوم التالي لوفاة كيسنجر "لقد مات رجلٌ لم يتمكن تألقه التاريخي قط من إخفاء البؤس العميق لأخلاقه"
لم تكن الأرجنتين البلد الوحيد الذي عانى من سياسات كيسنجر، بل معظم دول تلك القارة، وخصوصاً ما عُرف بدول المخروط الجنوبي لأميركا اللاتينية (الأرجنتين، بوليفيا، تشيلي، البرازيل، باراغواي وأوروغواي). في تلك الدول قاوم كيسنجر أية محاولة أميركية للضغط على حكوماتها العسكرية بشأن انتهاكاتها لحقوق الإنسان، وصولاً إلى الصمت عن "عملية كوندور" العابرة للحدود، التي قادتها تشيلي والأرجنتين والأورغواي لملاحقة وقتل المعارضين الفارّين إلى الولايات المتحدة وأوروبا.
رغم كل ما سبق، يبقى الأكثر سوداوية على إرث كيسنجر، ما فعله علناً أحياناً، وبسرّية كاملة أغلب الأحيان، في تشيلي. بدءاً من مساهمته بالإطاحة بالرئيس والحكومة المنتخبة ديمقراطياً، وصولاً إلى مساندته غير المحدودة للديكتاتور الأشهر "بينوشيه"، وهو ما سوف آتي عليه لاحقاً. لذا لم يكن من المستغرب ما كتبه "خوان غابرييل فالديس" سفير تشيلي لدى الولايات المتحدة، في اليوم التالي لوفاة كيسنجر "لقد مات رجلٌ لم يتمكن تألقه التاريخي قط من إخفاء البؤس العميق لأخلاقه".