رغم أن أسوأ ما خلَّفه كيسنجر في الذاكرة الدولية كان خارج منطقتنا، خصوصاً سياساته في جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، إلا أنه أبى أن يودع الحياة دون أن يجعل المنطقة العربية والإسلامية عموماً، تذكره في أواخر أيامه، بطريقة سلبية تنطوي على كثير من الاشمئزاز، مُصرّاً على أن يكون أميناً لتاريخه وأفكاره، وبُنيته التي اتسمت على الدوام بالاستهتار بحقوق البشر.
رداً على التظاهرات المتضامنة مع ضحايا غزّة التي انطلقت في مختلف أنحاء أوروبا، أصدر كيسنجر بياناً انتقد فيه التساهل مع هجرة المسلمين إلى تلك البلدان: "كان من الخطأ الفادح السماح بدخول هذا العدد الكبير من الناس من ثقافة ودين ومفاهيم مختلفة تماماً. فهو خلق مجموعات ضغط داخل كل دولة سمحت بذلك".
عموماً للوهلة الأولى، موقف الرجل لا يبدو مستغرباً، لكنّه سيغدو كذلك إلى حدٍّ ما، مع معرفة أن كيسنجر حضر إلى أميركا لاجئاً مع عائلته عام 1938، وهو بعمر خمسة عشر عاماً، فراراً من اضطهاد الحكم النازي لليهود في ألمانيا.
وفقاً للدعوى "تظهر الوثائق أن المساعدة العملية والتشجيع التي قدمتها الولايات المتحدة، والأفعال الرسمية المتطرفة لهنري كيسنجر أدّت إلى إعدام الجنرال شنايدر بإجراءات تعسفية موجزة"..
بالعودة إلى أميركا اللاتينية، في خريف عام 2001، تقدّم أبناء الجنرال التشيليّ رينيه شنايدر، بدعوى مدنية ضد هنري كيسنجر والحكومة الأميركية إلى محكمةٍ في ولاية كولومبيا الأميركية، بتهمة القتل غير المشروع لوالدهم. استشهدت الشكوى بصيغتها المعدّلة، عام 2002، بالسجلات الأميركية الذي رفعت عنها السرية، كدليل على مسؤولية المُدّعى عليه في القضية. وفقاً للدعوى "تظهر الوثائق أن المساعدة العملية والتشجيع التي قدمتها الولايات المتحدة، والأفعال الرسمية المتطرفة لهنري كيسنجر أدّت إلى إعدام الجنرال شنايدر بإجراءات تعسفية موجزة".
حدثت تلك الجريمة، عام 1970، بعد فوز الرئيس الليندي بالانتخابات الرئاسية وقبل تنصيبه، خلال عملية انقلاب فاشلة خططت لها وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وأشرف عليها هنري كيسنجر شخصياً. وكان واحداً من ضحاياها القائد الأعلى للجيش التشيلي المؤيد للدستور، الجنرال رينيه شنايدر. طبعاً تم رفض الدعوى في النهاية، وحكم القضاة بأن كيسنجر يتمتع بالحصانة عن الإجراءات التي اتخذها كجزء من مسؤولياته الرسمية كمستشار للأمن القومي للرئيس الأميركي.
بحسب إحدى الوثائق المفرج عنها، سينبه فيرون فاكي النائب الأول لمستشار الأمن القومي رئيسَه كيسنجر إلى إمكانية تعرّض سمعة الولايات المتحدة للضرر من جراء هذا التدخل، مقدّماً حجة أخلاقية "ما نقترحه (الإطاحة بالرئيس المنتخب قبل تنصيبه) هو انتهاك واضح لمبادئنا الأخلاقية والسياسية"، ومع ذلك سيتجاهل كيسنجر تلك التحذيرات ويمضي في التدخل إلى المدى الأبعد.
في 12 أيلول/ سبتمبر 1970، بعد أيام فقط من فوز الرئيس التشيلي المنتخب، تحدث كيسنجر إلى وزير الخارجية الأميركي ويليام روجرز حول وجود خطط لمنع تنصيب الليندي.
على مضضٍ، وافق روجرز على قيام وكالة المخابرات المركزية "بالتشجيع للتوصل إلى مصير مختلف في تشيلي"، لكنه نبّه إلى ضرورة القيام بذلك بشكل سرّي، خشية كشف تدخل الولايات المتحدة ضد حكومة منتخبة ديمقراطياً.
يعلّق كيسنجر على ملاحظات الوزير بحزم "إن وجهة نظر الرئيس هي بذل أقصى جهد ممكن لمنع استيلاء الليندي على السلطة، ولكن طبعاً بأيدي تشيلية، وبموقف أميركي غير محسوس".
بعد فشل المؤامرة الأولية للانقلاب، أقنع كيسنجر نيكسون برفض موقف وزارة الخارجية القائل بأن واشنطن يمكن أن تتوصل إلى تسوية مؤقتة مع الليندي، طالباً السماح بالتدخل السري "لتكثيف مشكلات الليندي، بحيث قد يفشل أو يضطر إلى الحدِّ من نفوذه على الأقل، وفي الحد الأقصى قد نستطيع خلق الظروف التي تؤدي إلى انهيار النظام، أو الإطاحة به".
لم يختلف ما أبلغه نيكسون إلى مجلس الأمن القومي عما طلبه كيسنجر.. "اجعلوا اقتصاد تشيلي يصرخ" أنهى الرئيس أوامره. إثر ذلك، سيوجه كيسنجر مذكرة إلى المخابرات المركزية "يجب أن نستمر في الضغط على كل نقطة ضعف عند الليندي الآن وفي المستقبل.. إن الإطاحة بالليندي عن طريق انقلاب هي سياسة أميركية ثابتة ومستمرة".
بهدف التأثير على الرئيس، سيوجّه كيسنجر، قبل أحد الاجتماعات الحاسمة لمجلس الأمن القومي، رسالة إلى نيكسون محاولاً إقناعه بتبني سياساته المتعارضة مع موقف وزارة الخارجية. "يجب اتخاذ قرار بأننا سنعارض الليندي بأقوى ما نستطيع، لمنعه من تعزيز سلطته.. لا ينبغي لنا أن نسمح له بالنجاح.. إن انتخاب الليندي واحدا من أخطر التحديات" ليضيف بعدها "ما يجب فعله قد يكون القرار الأكثر تاريخية وصعوبة في الشؤون الخارجية الذي يتعيّن عليك اتخاذه".
سيغدو كيسنجر من أشد أعداء الديمقراطية في العالم، عندما تنتج وضعاً لا يتفق مع مصلحة الولايات المتحدة، كحال وصول رئيس اشتراكي ديمقراطياً إلى الحكم في تشيلي. لذا صمم كيسنجر سياسة الولايات المتحدة لمنع الليندي من تعزيز حكومته المنتخبة. ولكن بمجرد استيلاء قوات الجنرال أوغستو بينوشيه على السلطة بانقلاب عسكري مدعوم أميركياً وبخاصة من كيسنجر كما تُظهر وثائق أيلول/سبتمبر عام 1973، سيعيد كيسنجر تشكيل سياسة الولايات المتحدة للمساعدة في ترسيخ دكتاتورية عسكرية وحشية، قامت بانتهاكات ما زال الإعلام الدولي يتداولها حتى يومنا هذا.
يؤكد ستيفن جروبارد، صديق كيسنجر، أن الأخير "سعى في المقام الأول إلى مثل هذا التوجّه، لإرشاد نفسه، وليتعلَّم ما يستطيع حول تاريخ لعبة القوَّة بين الدول"..
كان كيسنجر قد حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة هارفارد عام 1954، عنوان أطروحته "السلام والشرعية والتوازن". حول ذلك، يؤكد ستيفن جروبارد، صديق كيسنجر، أن الأخير "سعى في المقام الأول إلى مثل هذا التوجّه، لإرشاد نفسه، وليتعلَّم ما يستطيع حول تاريخ لعبة القوَّة بين الدول". ربما لهذا بدا لنا وكأن كيسنجر، في تعاملاته السياسية، كان رجلاً بلا روح، لدرجة أنه لم يخشَ يوماً لعنة التاريخ.
إضافة إلى كل ما ذكرناه، أدت سياسات كيسنجر إلى إطالة حرب فيتنام خمس سنوات، وإلى إشعال الحرب في أنغولا، وإطالة أمد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وفي الشرق الأوسط، حسب مراقبين، ترك المنطقة في حالة من الفوضى، مما مهد الطريق للأزمات التي ما تزال تصيب المنطقة.
في سياساته، كان يرى أنه يخدم أميركا من وجهة نظره، ربما لهذا السبب كسب احترام النخب السياسية الأميركية الحاكمة، وكسب معها لعنة العديد من شعوب العالم. "لم يتم استجواب كيسنجر ولو مرة واحدة بشأن أي من جرائمه المزعومة، ناهيك عن محاكمته. كان جزء كبير من العالم يعتبر كيسنجر مجرم حرب، ولكن من كان يجرؤ على وضع الأصفاد في يدي وزير خارجية أميركي؟" يتساءل ريد برودي المدعي العام لجرائم الحرب، الذي رفع قضايا قانونية تاريخية ضد "بينوشيه" ديكتاتور تشيلي، وللأخير تفاصيل مخزية حول دعم كيسنجر لتوحشه.