دفعت الحرب الروسية – الأوكرانية الكثير من قضايا العالم إلى الواجهة، ومنها مسألة ما يسمى هيمنة القطب الواحد (الولايات المتحدة الأميركية) والحديث عن ضرورة تعدد الأقطاب، كحل أفضل لقيادة العالم وإدارته. فهل ثمة قطب واحد في عالمنا؟ وهل يحتاج العالم إلى أقطاب متعددة بالفعل، أم أن نظامًا آخر قد يكون الأفضل من أجل إنقاذه؟ هذا ما يحاول مقالنا المتواضع الإجابة عنه بالخطوط العريضة.
أفرزت الحرب العالمية الثانية النظام العالمي المعمول به حاليًا في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي؛ أي حق الفيتو الذي امتلكته الدول المنتصرة الأربع (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وإنكلترا وفرنسا) وأضيفت إليها الصين لاحقًا (1971). أسهم هذا النظام في الحد من خطر قيام حرب عالمية ثالثة بين الكبار، مع أنه نقل ميدان الصراعات، وهي أقل حدة على العموم، إلى ما كان يسمى العالم الثالث.
استند نظام القطبين هذا (بمعنى أن الولايات المتحدة وفرنسا وإنكلترا في قطب والاتحاد السوفياتي في القطب الآخر) على أسس سياسية واقتصادية واضحة، فهو، اقتصاديًا، نظام رأسمالي مقابل نظام "اشتراكي"، وسياسيًا، نظام ديمقراطي مقابل نظام شمولي. ولم يُحدث دخول الصين إلى هذا النظام فرقًا مهمًا، لأنها كانت محسوبة على القطب السوفياتي، سياسيًا واقتصاديًا.
وبعد أن تحولت الصين إلى اقتصاد السوق الاشتراكي (رأسمالية مقنعة) عام 1978، وانهار الاتحاد السوفياتي ومنظومته "الاشتراكية"
(1989 – 1991)، وترسملت روسيا وورثت مقعده في مجلس الأمن؛ صار الأساس الاقتصادي (الرأسمالي) واحدًا بالنسبة لجميع الدول الخمس التي تمتلك حق الفيتو، وانحصر التنافس فيما بينها على المستوى السياسي؛ أي بين النظام الديمقراطي للقطب الأول (الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا) والنظام الاستبدادي للقطب الثاني (الصين وروسيا).
الحديث عن ضرورة وجود عالم متعدد الأقطاب ليس له أي أساس، فهو موجود عمليًا، اللهم إلا إذا كان المقصود منافسة الولايات المتحدة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري لتبوء مكانتها
صحيح أن الولايات المتحدة قد ربحت الكثير من سقوط الاتحاد السوفياتي، لكن نظام الأمم المتحدة لم يتأثر، ذلك لأن أهمية الولايات المتحدة في هذا النظام لا تأتي من كونها عضوًا فيه فقط، فحقها في الفيتو هو نفسه كما لكل دولة من الدول الخمس الأخرى، إنما تأتي من كونها القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى، فضلًا عن قيادتها لحلف شمال الأطلسي.
لذا، فإن الحديث عن ضرورة وجود عالم متعدد الأقطاب ليس له أي أساس، فهو موجود عمليًا، اللهم إلا إذا كان المقصود منافسة الولايات المتحدة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري لتبوء مكانتها، وهذا حق مشروع لكل دولة. وإن معظم من يتحدث عن ضرورة وجود عالم متعدد الأقطاب هم من ممثلي الأنظمة المستبدة وأتباعها، الذين حُرموا من الحماية التي كان يوفرها لهم الاتحاد السوفياتي المنهار. أما الصين، فإن أكثر ما يهمها هو التنافس مع الولايات المتحدة اقتصاديًا، بينما تهتم روسيا بمنافستها عسكريًا، فهما تعرفان بأن الموضوع لا يتعلق بنظام الأمم المتحدة؛ لأنه ما يزال يعمل لصالحهما كما في السابق. كما لن يغيّر انضمام دول كبيرة أخرى، كالهند والبرازيل وغيرها، إلى نادي الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن شيئًا في الأمر، ولن يقدم حلولًا إضافية لمشكلات العالم في نهاية المطاف.
قبل الحديث عن البديل المقترح للنظام الدولي الحالي، لا بد من إيراد ملاحظتين مهمتين؛ الأولى تتعلق بدول الاستبداد، روسيا والصين والأنظمة الحليفة، فهي أنظمة غير مستقرة سياسيًا، نظرًا للافتراق الحاصل بين بنيتها التحتية الرأسمالية وبنيتها الفوقية الاستبدادية، بمعنى لا ديمقراطيتها، وإن إدخالها في أي نظام جديد يمنحها غطاء شرعيًا عالميًا، كما يطيل من محنة شعوبها ويعيق عملية انعتاقها من نير الاستبداد. أما الملاحظة الثانية فهي التأكيد بأن النظام الاقتصادي الوحيد السائد عالميًا في الوقت الحاضر هو النظام الرأسمالي بدرجات تطوره المختلفة، من الاحتكاري المافيوي إلى اقتصاد المعرفة الجديد الأكثر إنسانية، وبالتالي فإن الصراع العالمي، لحسن الحظ، صار محصورًا بالمستوى الفوقي، السياسي؛ أي بين الديمقراطية والاستبداد، ومن هنا تأتي فكرة الاقتراح الجديد.
يتلخص هذا الاقتراح في جعل التحالف الدولي، الذي يتبلور حاليًا في مواجهة القيادة الروسية بعد احتلالها لأوكرانيا وتهديدها باستخدام الأسلحة النووية، تحالفًا ثابتًا ومُمأسسًا، ما يفضي إلى لجم الطموحات الروسية من جهة، وتوجيه رسالة واضحة إلى الصين (الحليف الاستبدادي لروسيا) من أجل أن تنأى بنفسها عن الحليف الروسي وجعلها تتريث في اتخاذ خطوة مشابهة ضد تايوان من جهة ثانية، وهذا ما يخدم أيضًا شعبي هذين البلدين ويسرع من التغييرات الديمقراطية في كلتا الدولتين.
إن الشرط الرئيس لنجاح مثل هذا التحالف (تحالف الديمقراطيين) هو أن تتخلص الدول الديمقراطية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، من أنانيتها، وأن تنظر إلى العالم ومصلحته كوحدة متكاملة
في هذه الأثناء، يمكن أن تبقى هيئة الأمم المتحدة الحالية كمنبر عالمي و"جمعية خيرية"، وأن يبقى حق الفيتو في مجلس الأمن كمتنفس لإرضاء كبرياء الدول التي تمتلك هذا الحق، لكن مع العمل على نقل الكثير من المهام السياسية إلى التحالف الدولي المتبلور بقوة حاليًا، وإلى الهيئات الاقتصادية والعسكرية والسياسية التي يمكن أن تنبثق عنه.
إن الشرط الرئيس لنجاح مثل هذا التحالف (تحالف الديمقراطيين) هو أن تتخلص الدول الديمقراطية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، من أنانيتها، وأن تنظر إلى العالم ومصلحته كوحدة متكاملة، بما في ذلك الحفاظ على البيئة وحماية الشعوب الضعيفة من الطغم المستبدة ومساعدتها في تنمية مواردها ونيل حريتها.
أما شعوبنا ونخبها، فعليها أن تحسم أمرها في اتجاه المستقبل، وتتبع بوصلتها الغريزية التي تدفع بعض أبنائها لتحمل الشدائد من أجل الوصول إلى بر الأمان في أوروبا وليس إلى أي مكان آخر، وإن تغيير الأحوال للوصول إلى حياة أفضل مرتبط بالتحرر من قيود الماضي وأوهامه، والانخراط الإيجابي في هذا العالم من أجل إحداث الفرق المنشود.