لم يبدأ التضاد الحاد في المواقف والاصطفافات بين السوريين عام 2011، وربما تضرب جذوره في طبيعة نشأة سوريا كتجميع لمكونات ومناطق من دون الارتقاء إلى حالة وطنية ديمقراطية مستقرة أساسها دولة المواطنة وسيادة القانون، إلى أن تم لاحقًا تغييب القانون و"ركل" حجر الأساس السوري، الذي تمثل في دستور 1920 وبناء هيكلية الدولة إبان الاستعمار الفرنسي، لينهار البناء فوق رؤوسنا جميعًا.
ولم يأت تقسيم الفرنسيين لسوريا إلى أربع دويلات من فراغ، وحاول الإجراء الفرنسي محاكاة واقع موجود مسبقًا، تتمايز فيه حلب عن دمشق، وقد تم التعبير عن هذا التمايز في الثلاثينيات من خلال التنافس السياسي بين حزب الشعب والكتلة الوطنية، فضلًا عن التركيبة المتنوعة للساحل السوري، وما يمتاز به جبل العرب عن المناطق الثلاث. يضاف إلى ذلك بالطبع الصراع بين البدو والحضر، والانقسامات الطبقية الأفقية، والطائفية - القومية العمودية. مختصر القول هو أننا فشلنا في تحويل هذا التنوع الاجتماعي إلى ثروة وطنية عظيمة في دولة، فكانت العصبيات تظهر وتتوارى بين وقت إلى آخر.
الملاحظ هو ضيق مساحة التعقل والوسطية في السجالات التي تنشأ عن أي خلاف، مقارنةً بحجم التطرف والانحياز الحاد إلى قطبي المسألة المُختلف عليها
ثم أخرجت وسائل التواصل الاجتماعي هذه التباينات إلى السطح، وتم استخدامها في إذكاء الصراعات العنيفة منذ عام 2011، واتخذت أشكالًا طائفية أو قومية أو عشائرية، وتشعبت المواقف والاصطفافات الناجمة عن هذه التباينات لتشمل كل أو معظم القضايا الاجتماعية المختلف عليها، من ضمن حالة التشتت التي عاشها السوريون. قد يقال بأن الأمر طبيعي، إن أُخذ كاختلاف في وجهات النظر، لكن الملاحظ هو ضيق مساحة التعقل والوسطية في السجالات التي تنشأ عن أي خلاف، مقارنةً بحجم التطرف والانحياز الحاد إلى قطبي المسألة المُختلف عليها، وبغياب النواظم القانونية التي تضبط هذه الخلافات وتمنع خروجها عن نطاق السيطرة.
من هذه القضايا التي أثيرت حولها الخلافات الحادة مؤخرًا رسوم فنان الكاريكاتير السوري الأشهر علي فرزات، وبخاصة تعليقاته ونمط ردات فعله، التي انتقدها كثيرون، وزاد دفاعه عنها من حدة الخلافات. فهل مثل هذه الحوارات سلبية ومحبطة بالفعل، أم أنها مجرد مرحلة عابرة لا بد منها لتأسيس توافقات ممكنة من أجل بناء رأي عام في مختلف القضايا الاجتماعية، الأمر الذي يعدُّ ضروريًا لبناء وطنية سورية جديدة؟
ما يدعو للتفاؤل، بالرغم من حدة المواقف، هو أن هذه الخلافات والسجالات تحصل بين السوريين أنفسهم وبصورة سلمية، وهذا يعني أنهم يجتهدون جميعهم لرسم صورة سوريا التي يحبون، كل من وجهة نظره، لكن ما ينقصها هو الناظم القانوني كسقف، وهو غير متوافر حاليًا. ومن حسن الحظ أيضًا أنه لا علاقة لهذه الخلافات بتقسيم سوريا أو تثبيت الأمر الواقع الحالي، فهي محصورة في الحيز الاجتماعي، وهي مجرد اختلافات في وجهات النظر، والتي تعدُّ ضرورية من أجل تطور المجتمع السوري، فهي تختلف عن الصراعات العقائدية والاصطفافات الحادة التي احتاجتها ظروف الحرب، كضرب من التحشيد لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
فمن خلال تباين وجهات النظر حول هذه القضية أو تلك، يمكن للمرء أن يتعرف على وجهات النظر الأخرى، فيراجع آراءه ومعتقداته الخاصة أو يعدلها، ما يسهم في تكوين رأي عام وسطي يمكن الركون إليه في وضع القوانين والاعتبارات ذات الصلة، عوضًا عن "إسقاطها من فوق". وفي ما يتعلق بالأعمال الفنية لا تكفي القوانين إلا كمجرد إطار عام، فثمة ذائقة شخصية واجتماعية معقدة تحدد ما هو مقبول وغير مقبول في نهاية المطاف.
ومن أجل صون حق الفنان في التعبير عن رأيه، من خلال فن الكاريكاتير وغيره، لا بد أن تتوافر مناخات الحرية التي لا تُقيد الإبداع، ولو لم يعجبنا ذلك أحيانًا، لكنها تبقى مشروطة، نسبيًا، باعتبارات اجتماعية يتم التوافق عليها وتختلف من مجتمعٍ إلى آخر. وغني عن القول بأن الشخصية القلقة للفنان هي أهم مصادر إبداعه، ويجب ألا يُحاكم إلا من خلال هذا الإبداع، فلا تتحول مسألة الآداب الاجتماعية إلى عصا، فالفنان يخضع لقوانين مهنته وطبيعتها قبل أي أمر آخر، وكثرة التأدب في الحياة والفن مثل قلته. من جهته، قد يسيء فنان الكاريكاتير إلى عمله إنْ أكثر من الشروح والحيثيات والتعابير المباشرة. وفي نهاية المطاف، فإن الجمهور الوسطي هو من يحدد ما هو مقبول وغير مقبول، ولا يمكن للفنان أن يتغاضى عن آراء جمهوره، فهو سمكة في بحره.
تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا بحدوث ردات فعل لم تكن متوقعة على الإطلاق، طالت حظر بعض الرموز الثقافية الروسية العالمية الطابع في الغرب، كالأدب الكلاسيكي
يحمل الفنان روحًا طفولية متمردة مهما بلغ من الكبر، وهي الخلفية التي تحثه على الخلق والإبداع من جهة، وتجعله أكثر اضطرابًا وحساسية في مواجهة الضغوط من جهة أخرى، وعندما يفقد الفنان صوابه، لا ينتج عن ذلك سوى التقديرات والقرارات الخاطئة. مع ذلك، لا يمكن الاستعاضة عن الفنانين ولا تبديلهم بأشخاص آخرين، وتبقى حياتنا بحاجة إلى المزيد من الفنون من أجل رقي الحياة وارتقائها، وإلى الكثير من النقد بمختلف أشكاله، من دون ذلك لا تستقيم أي حياة سياسية واجتماعية، فكيف إذا كانت معوجَّة أصلًا!
لم تعد السجالات الفنية والثقافية الحادة مقتصرةً على الحالة السورية، فقد تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا بحدوث ردات فعل لم تكن متوقعة على الإطلاق، طالت حظر بعض الرموز الثقافية الروسية العالمية الطابع في الغرب، كالأدب الكلاسيكي، ولو في نطاق محدود. إنه أمر غير مقبول بالطبع، وإن كان يمكن فهمه كحالات متطرفة رافقت الهجوم الروسي غير المبرر على الإطلاق، والذي جرّ العالم إلى كارثة جديدة كان بغنىً عنها، وما تزال كل الاحتمالات السيئة واردة، بما في ذلك الحرب النووية.