في مقطع فيديو انتشر أخيرًا على وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر حوار صوتي هاتفي بين شخصين ضبطا على برنامج الذكاء الاصطناعي الشهير Chat Gpt وهما يقدمان لبعضهما -بصيغة النقاش- طرقًا مبتكرة عن سيناريوهات لإفناء البشرية.
يطرح الأول فكرة استخدام تقنية نانو ذاتية التكاثر، تحول المواد العضوية إلى غبار، فيُعجَب الآخر بالطرح ويبادر بفكرة تغيير مكونات الغلاف الجوي لخفض مستويات الأوكسجين، وخنق سكان الكوكب.
وبين تسميم مياه المحيطات، وحرف أشعة الشمس... يجد المتحاوران بأنهما يقدمان نهايات أنيقة، مدمرة؛ فيعلو ضحكهما اعتدادًا بتميّز ما يطرحان.
بصرف النظر إن كان الفيديو حقيقيًا أم من صنع تطبيق الذكاء الاصطناعي نفسه، فهو يضع أمامنا أسئلة خطيرة حول وجودنا مقابل وجود الآلة؛ أسئلة قديمة متجددة أخذت شكل الهواجس والمخاوف التي تجاوزت إطار القلة غير المطلعة أو فئة المؤمنين بنظرية المؤامرة، لتجذب الفئات الفنية والفكرية والثقافية. فمنذ أن انطلق تطبيق Chat Gpt وأشباهه، كُتبت عشرات المقالات والبحوث لطمأنة الصحفيين والكتّاب والفنانين بأن تلك التطبيقات ليس بمقدورها -إلى الآن- إنجاز مادة إبداعية تتفوق على المنتج البشري. ولن يركنوا في الوقت الحالي جانبًا لتحل محلهم آلات كما جرى مع أسلافهم العمال حين أزاحتهم الآلة التي صنعوها بأيديهم واستولت على أعمالهم.
***
في المقابل، قدمت بحوث ومقالات أخرى تنبؤات وسيناريوهات تثير تلك المخاوف؛ كـ "السيناريو الكارثي للذكاء الاصطناعي" الذي نقله الكاتب الأميركي "ديرك تومبسون" في مجلة "ذا أتلانتك" عن الباحث وعالم الحاسوب "ألايزر يودكوسكي"، حيث تنبأ الأخير بتطوير ذكاء اصطناعي خارق، بقدرات أعلى بكثير من الحالي، إذ يبتكر هذا الذكاء نسخاً متعددة عنه، تتّحد مع بعضها للإفلات من قبضة الإنسان، والانقلاب عليه، فتقدم هذه النسخ المتحدة على سرقة أموال البنوك ودفع بعضها لعلماء مقابل إنشاء مختبر بيولوجي بحجة استنساخ بروتين من الحمض النووي لإنتاج جرثوم فتاك، ثم تطوّع تلك النسخ مرتزقة منّا -نحن البشر- لنشر الجرثوم المنتج، فتفنى نصف البشرية بسبب هذا الجرثوم القاتل.
من حقنا كبشر نحمل أنواع المشاعر على اختلافها، أن نرتاب من هذه الهواجس ونفكر في احتمالات فنائنا، وخصوصًا أننا خرجنا منذ قليل من وباء كورونا الذي حصد آلاف الأرواح، وفيه تعززت نظريات عديدة للمؤامرة
في النهاية، وبعد أن نقل "ديرك تومبسون" هذا السيناريو، يقول: "لا أعرف ما هي ردة فعلي تجاهه، هل أتغاضى عنه وأكمل حياتي بشكل طبيعي أم أقلق وأرتاب من إمكانية تحقق هذا السيناريو؟".
ولا يعد هذا السيناريو الوحيد، ففي أكثر من عمل فني وأدبي طُرحت سيناريوهات مشابهة، آخرها: "لا تنظر إلى الأعلى" و"اترك العالم خلفك" وغيرها... فضلًا عن السيناريوهات التي تناولت تمرّد الروبوت، والتي كانت وما زالت تصور تلك الآلات على أنها ظالمة للجنس البشري.
بينما في سلسلة "عالم الغرب" فتبرز فكرة النقيض؛ إذ بعد أن ابتكرت شركة ما عددًا من الروبوتات، الشبيهة بالبشر إلى حد كبير، بغرض الترفيه، ووضعتها في مدينة مبنية على نمط مدن الغرب الأميركي القديم، ثم جذبت السياح للعيش في حقبة غابرة بكل ما فيها؛ ظهرت عقد الكائن البشري الذي راح ينكل بتلك الروبوتات ذات المشاعر، ليدفعها أخيرًا إلى التمرد عليه في أحداث دموية.
إن نظرنا إلى جميع السيناريوهات المطروحة لتمرد الذكاء الاصطناعي والآلة الموضوعة من قبل بشر منا، وبأن جميع المحاولات تدأب على منح الآلة التي نتهافت على تطويرها لتقليل متاعبنا، مشاعر شبيهة بمشاعر الإنسان، وذهنًا يفوق ذهن الإنسان، وعلى الرغم من أن معظم تلك المحاولات لم تفلح إلى الآن، فإن الهواجس منها ستبقى مشرعة إلى أن تتحقق، أو يتحقق نقيضها.
***
من حقنا كبشر نحمل أنواع المشاعر على اختلافها، أن نرتاب من هذه الهواجس ونفكر في احتمالات فنائنا، وخصوصًا أننا خرجنا منذ قليل من وباء كورونا الذي حصد آلاف الأرواح، وفيه تعززت نظريات عديدة للمؤامرة، وتحققت تنبؤات فناء البشرية بشكل جزئي، فصار الإنسان منا قابلًا للتصديق أكثر من ذي قبل.
لكن لنعد قليلًا إلى تاريخنا: نحن صناع الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين قتل فيهما ما يقارب الثمانين مليون إنسان، نحن مفتعلو الحروب والصراعات الأخرى، نحن من انتهكنا الطبيعة ونمضي في حرب إبادتها، نحن صناع البارود، ونحن من نرميه على بعضنا... نحن من ابتكرنا الآلة وفي سبيل راحة أكثر تركناها تحل محلنا، نحن من ابتكرنا الذكاء الاصطناعي وأخذت أصواتنا تعلو خوفًا من تمرده واستيلائه على كوكبنا. نحن أصحاب التاريخ والحاضر الدموي وليس غيرنا.
إذن، في حال لم نغذ الآلة بمعلومات سلبية أو مشاعر عدائية، فلن يأتي يوم عليها تشتمنا فيه أو توجه أسلحة إلى رؤوسنا. وعليه، فإن الآلة لا تكره، ولا تفكر في القتل، هي لا تحمل أخلاقًا حميدة أو بذيئة، وكل السيناريوهات والتنبؤات المطروحة عرضت البشر كمساندين لتلك الآلة في قتل بشر آخرين، ولا يمكن للآلة مهما بلغت من التطور أن تبادر بأي فعل من تلقاء نفسها، أو من دون تدخل البشر.
الأولى بنا أن نخاف من أنفسنا قبل أن نخاف مما هو من صنع أيدينا، أن نهاب عدائيتنا وطموحنا وإلى أي مدى يمكن أن يأخذنا، قبل أن نهاب الذكاء الاصطناعي.