تباينت وجهات النّظر بشكل حادّ حول فيلم "لا تنظر إلى الأعلى" (Don't Look Up) فمن ناحية وجده البعض فيلماً لا يستحقّ المشاهدة، بينما وجده آخرون فيلماً عبقريّاً يجسّد الواقع بكل تجلّياته. وإذا استطلعنا آراء الجمهور سنجد أن التّقييمات متضاربة، فحسب موقع imdb الذي يقيّم الأفلام من قبل المستخدمين العاديّين؛ كان متوسط التقييمات 7.3 من ضمن 258,567 تقييماً للفيلم وهذا تقييم جيدٌ جداً.
بينما نجد تقييم المشاركين ينخفض في موقع metacritic حيث كان التّقييم 6.3 بالنسبة للمشاركين العاديين، 50 في المئة للنقاد؛ أي أن التقييم الإجمالي متوسط.
أما في موقع rotten tomatoe المتخصص بتقييم الأفلام من قبل النّقاد فقط -يشترط بالنّاقد أن يكون له محتوى نقدي مستمر منذ عامين على الأقل- فإن تقييم الفيلم جاء بنسبة 55 في المئة، أي أنه فيلم سيء، ففي هذا الموقع يعتبر الفيلم سيئاً إذا لم يتجاوز عتبة الـ 60 في المئة من تقييمات النّقاد.
وهذه مفارقة قد تكون لافتة للنظر؛ فيلم يحصل على إجماع النّقاد برداءته الفنيّة، بينما يجده المشاهد العادي جديراً بالمشاهدة، فما سبب هذا البون الشاسع بين تقييمات النّقاد وتقييمات المشاهدين؟
الفيلم و كتاب "نظام التّفاهة"
يكاد هذا الفيلم أن يكون مستمداً من كتاب "نظام التّفاهة" للفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو الذي نقلته للعربية الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، رغم اعتراض البعض على اختيار "نظام التّفاهة" كترجمة لعنوانه "mediocracy" بالإنجليزية، اللّفظ الذي يعني بترجمة حرفية "دون الوسط". في الحقيقة يؤكد إنتاج هذا الفيلم صوابيّة رؤية الدكتورة باختيار المرادف العربي الأنسب وهو نظام التّفاهة.
غالباً مايشار إلى تافهين في السوشال ميديا حصراً، لكن الكتاب والفيلم يؤكدان أن هؤلاء هم عرض جانبي لاستحواذ تافهين آخرين على ميادين العلم والسياسة والاقتصاد.
إذا استعرضنا فصول الكتاب ومحاور الفيلم الرّئيسة سنجد أنها متطابقة بشكل واضح وجلي، ويكاد يكون ترتيب المحاور ذاته في العملين.
فالكتاب يتكون من أربعة فصول رئيسة، يتناول في الفصل الأول قضايا متعلقة بالمعرفة وصناعة الرأي العلمي، ويتطرق الفصل الثاني للاقتصاد الجشع والغبي، ويتناول الفصل الثالث قضايا تتعلق بالثّقافة والمشاهير وتحجيم دور الفنّانين، لينتهي الكتاب بما يشبه الدّعوة للثورة على هذا النظام "نظام التّفاهة" عبر الدّعوة للقطيعة الجمعية.
إذا عدنا للفيلم، فإن القضايا التي تناولها تكاد تكون ذات القضايا التي تناولها الكتاب وبالتسلسل ذاته، فقط تم تضمين هذه المحاور من خلال قصة مذنّب سوف يصطدمم بالكرة الأرضية، في الحقيقة أن المذنّب الذي سيصطدم بالكوكب هو "نظام التّفاهة" ذاته!
النّاقد والمُباشرة في العمل الفني
يقول هيغل: "عندما يرتفع منسوب الأفكار في أي عمل إبداعيّ فإنه يتحول إلى خطاب".
إذا ما أسقطنا هذا الكلام على الفيلم سنجد أنه أشبه بكتاب ثقيل نسبياً، تم تحميله بفيلم مدته ساعتان وثماني عشرة دقيقة، وهذا إن دّل على شيء فإنّه يدلّ على أنّه أشبه بالخطاب المباشر منهُ للعمل الفني الذي غالباً ما يبتعد عن المباشرة.
في هذا الفيلم، لا نحتاج إلى محاولة فك الرّموز والإسقاطات؛ فالأفكار مطروحة بشكل مباشر، حتىّ إنّ هناك عبارات مأخوذة من تصريحات للشخصيات الحقيقيّة التي تحاكيها شخصيات الفيلم.
الفيلم ببساطة شديدة يطرح القضايا الكبرى بطريقة سطحية، ومن النّقاد من يعتبر أن آدم مكاي أراد الإيحاء بأن الواقع سخيف ولا يمكن عرضه إلا بطريقة سخيفة
كثافة الأفكار التي ناقشها الفيلم أوقعته في المباشرة التي تُعدّ عيباً من عيوب العمل الفني كما يقول هيغل، ومقولته لا شك صحيحة؛ ولكن هل هي نصّ مقدّس صالحة لكلّ زمان ومكان؟ ألا يمكن أن تكون غير صالحة لعصر السوشال ميديا وكثرة الملهيات التي تحيط بنا؟
المشاهِد والمباشرة في العمل الفني
العالم يتغير، ووسائل التواصل الاجتماعي جعلت المتلقي يميل إلى الاختصار والمباشرة؛ لذلك نلاحظ أن الفيديوهات الأكثر مشاهدة لا تتجاوز الـ10 دقائق، بينما تكون عدد مشاهدات الندوات والمحاضرات التأصيليّة قليلة جداً. في تلك الندوات يبدأ المحاضر بإلقاء التحية للمشاركين ولرعاة الندوة، وعندما يبدأ المشارك بمداخلته يقال له بقي لديك عشر دقائق! يكاد شباب هذا الجيل أن يكفروا بهذه الكلاسيكيات فراحوا ينتجون محتواهم الذي يُصوِّب إلى الهدف مباشرة برسائل واضحة جليّة، مستغنين عن بعض الجماليّات التي قد يجدونها في مكان آخر يتناسب مع طرق تفكيرهم الجديدة، ومن هذا المنطلق فإن حضور فيلم ذي رسائل مباشرة أفضل لديهم من قراءة كتاب مُملّ (بالنسبة لهم) مثل كتاب نظام التّفاهة.
النّاقد والطرح السطحي في العمل الفني
العديد من الآراء النقدية صنّفت الفيلم على أنه فيلم كوميدي، حتى إن بعض الأراء رفضت تصنيفه في خانة الكوميديا واعتبرته "سكيتشاً" كوميدياً طويلاً جداً.
لا نظنّ أن الفيلم كوميدي، إذ لم يحاول كاتب ومخرج الفيلم "آدم مكاي" أن يضفي عليه طابع الكوميديا، وحتى أداء الممثلين لم يكن يراد له الظهور بمظهر كوميدي.
الفيلم ببساطة شديدة يطرح القضايا الكبرى بطريقة سطحية، ومن النّقاد من يعتبر أن آدم مكاي أراد الإيحاء بأن الواقع سخيف ولا يمكن عرضه إلا بطريقة سخيفة، وهذا ليس تقليلاً من أهمية الفيلم، إنما مكاي أراد أن يوصل محتوىً سطحياً سخيفاً للمتلقي، فالعملية ليست فشلاً بقدر ما هي عبقرية وفق رؤية المخرج والممثل بهدف إيصال السخافة بأبهى صورها.
يتجلى ذلك بالنكات السمجة التي تلقيها ميريل ستريب التي تلعب دور رئيسة الولايات المتحدة، ولا تثيّر هذه النكات أي أحد من الحضور ولا حتى المشاهد، فقط هي من تضحك عليها، أيضا يتجلى ذلك بوضوح عندما يلقي صاحب شركة الاتصالات النكات، ولا يضحك عليها أحد إلا هو.
في مشهد انتظار ظهور كيت ديباسكاي (جينيفر لورانس)، وأستاذها الدكتور راندال ميندي (ليوناردو دي كابريو) لفضح عدم الاكتراث من قبل البيت الأبيض للخطر الذي يداهم الكوكب، وبينما كانت إحدى مشاهير السوشال ميديا تستعطف عشيقها على الشاشة وسط دموع الملايين، كان الدكتور أوجلي ثورب (روب مورجان) يضحك لهذه السخافة. وفي مشهد سابق يتبين أنّه من متابعي هذه الشخصية المشهورة التافهة، أي أن السخافة بدأت تضحك قسماً كبيراً من البشر(بمن فيهم العلماء).
إذا بحثنا عن مفهوم السخافة فنياً ونقدياً في كتب النقد وجماليات الأفلام؛ سنجد أن الموضوع لم يأخذ حقه في البحث، إذ لا توجد معايير واضحة لرسم الحدود الفاصلة بين الكوميديا والسخافة.
المُشاهد والطرح السطحي في العمل الفني
نستذكر هنا موقفاً لإحدى مشاهير السوشال ميديا السورية، حين أدّت حركة أوحت من خلالها بأنها تعرضت للتعنيف وأعلنت اعتزالها منصات التواصل الاجتماعي، ليتجاوز عدد مشاهدات فيديو اعتزالها المزعوم الذي لم يتخطّ النصف دقيقة، الـ 23 مليون مشاهدة! وشكّل هذا الحدث (ترنداً) صاعداً لدرجة أن المذيع أحمد الفاخوري استضافها على قناة الـ BBC ليسألها عن سبب الاعتزال. والغريب في الأمر هو أن الفاخوري "المذيع المهني الملتزم" كان يحاورها باهتمام بالغ ويخاطبها باسمها، بينما كانت تناديه "أستاذ عبد الله" قبل أن يصحح لها الاسم.
(السخافة) لها جمهور واسع وعريض للأسف، ففي العالم العربي يوجد لدينا على سبيل المثال برنامج مقالب رامز جلال؛ برنامج بميزانية ضخمة ويستضيف نجوماً كباراً، وعلى الأغلب هم يعلمون بأنّه مقلب ولكنهم يمثلون دور الضّحية. معظم الجمهور يعلم أنّه تمثيل، بالإضافة إلى سخافة المقالب، إلا أن عدد المشاهدات يبقى ضخماً جداً في كل موسم رمضاني. هل قناة الـ mbc لا تعلم بسخافة الطرح؟ بالتأكيد هي تعلم، ولكن هذا النوع من البرامج يحظى بعدد مشاهدات ضخمة.. إنها حُمّى (التريندات) وما تفعله بالأدمغة البشرية.
ويبقى لنا أن نتساءل: هل على الفن أن يجاري ذائقة المُتلقي المتغيرة أم يجب عليه تحمّل مسؤولية رفع ذائقة المتلقي؟ ومن الذي يحدد المستوى الفني الهابط والرفيع؟