منذ خمس سنوات تقريباً والقضية السورية مغلقة، بمعنى أنها تدور في ثقب أسود بلا مخرج، وكل الطرق لحلها موصدة كحلقة جهنمية محكمة الإغلاق. فمنذ استعادة النظام السيطرة على درعا والغوطة عام 2018 واستعادته حلب قبل ذلك بسنتين، ومنذ "استقرار" الجولاني في إدلب و"سيطرة" قسد على الشمال الشرقي ضمن ترتيبة دولية معقدة وتركيبة داخلية أعقد، منذ ذلك الحين والقضية السورية مجمّدة والشعب السوري بلا أي أمل بحل قريب، فالنظام منتصر بلا أي معنى لانتصاره، والمعارضات مهزومة دون أن تسقط. لا النظام قادر على الاستفادة من انتصاره ولا المعارضة قادرة على الركون للهزيمة، لأنه في كلا الحالتين هناك الواقع الحقيقي الأقوى من الطرفين، أي الشعب الذي لا يشعر أو يستفيد أو يرى انتصاراً عندما يسمع نظامه يتحدث عن النصر، ولا هو في الضفة الأخرى قابل للهزيمة حتى لو أراد القبول، لأنه لا أحد يهزم شعباً حتى بالإبادة.
لكي نبحث في عمق المشكلة عن إجابة غير اعتيادية لسؤال الانغلاق المحكم، يجب علينا أولاً أن نستمع للديكتاتور. ليس لما قاله أو يقوله الدكتاتور اليوم، بل لما صنعه فينا كشعب خلال نصف قرن
لكن الانغلاق المُحكم للقضية السورية يجب أن يطرح علينا أسئلة غير اعتيادية، وأن يدفعنا للبحث عن أجوبة غير اعتيادية أيضاً. فالسؤال لماذا لا يوجد حل للمسألة السورية يمكن أن يلقى عشرات الإجابات التقليدية المعروفة والتي لا يمكن مقاومتها ولا تكذيب امتلاكها لجزء من الحقيقة، فعندما يقول أحدهم إن السبب الأساسي هو النظام، فهو لديه الحق، وعندما يقول آخر إن السبب هو أميركا أو إسرائيل أو روسيا أو تركيا أو إيران أو داعش والنصرة وحزب الله..ْ إلخ، سيكون للقائل بعض الحق والصحة في ما يقوله، ولكن سيلاحظ الجميع بعد ذلك أن امتلاك تلك الأنواع من الأجوبة لا يعني شيئاً، ولا يقدم حلاً لأحد، وأنه بغض النظر عمّن تلوم ضمن هذا الفشل الكامل، فإنه لا معنى عملياً بالمطلق لتلك المَلامة (حتى لو كان لها معنى أخلاقي)، ولذلك لن تنفعنا الإجابات التقليدية في شيء ولن تحل مشكلة لأحد ولن توصلنا إلا إلى الشعور الكامل بالعجز.
ولكي نبحث في عمق المشكلة عن إجابة غير اعتيادية لسؤال الانغلاق المحكم، يجب علينا أولاً أن نستمع للديكتاتور. ليس لما قاله أو يقوله الديكتاتور اليوم، بل لما صنعه فينا كشعب خلال نصف قرن. وما صنعه فينا هو أنه جعلنا نبتلع الديكتاتورية مع الطعام اليومي ونهضمها جيداً حتى باتت جزءاً من أحشائنا. وذلك بالضرورة مع الأخذ بعين الأهمية فكرة ماركس الشهيرة، وهي أن المربِّي يحتاج إلى تربية. فالديكتاتور الذي ربَّى سوريا هو أيضاً مُرَبَّى فيها ومنها. وبكلام آخر، صحيح أن الديكتاتور صنع سوريا وصنع ما يحل بها من كوارث اليوم، لكنه لم يصنعها على هواه، بل يمكن القول إنه صنعها على هواها.
والكلام السابق معناه أنه علينا الاستماع إلى الديكتاتور الذي فينا، (فينا ليس بالمعنى النفسي المبتذل أو الكليشيهوي) بل بالمعنى الاجتماعي والسياسي أيضاً، فيمكن لأي شخص، مثقف أو عادي أو لم يسمع بحياته كلمة ديمقراطية، بدوي أو حضري أو شامي أو حلبي أو أقلوي أو سنّي أو أياً يكن، يمكن لأي منهم أن يخبرنا صادقاً أن آليات الحكم تحت قسد أو النظام أو داعش أو النصرة لا تختلف عن بعضها في الجوهر، وحتى لو كانت مناطق قسد تبدو اليوم وكأنها تونس بالقياس إلى دول الربيع العربي الفاشلة، إلا أنه عندما ننظر إلى الحكم في تونس ذاتها سنجد أنه مجرد ديكتاتورية ممنوعة من التحقق، أو حكم ديكتاتوري بالقوة يكافح بكل ما لديه ليتحقق. وهذا ما ينطبق على تونس السورية، ويمكن أن يشعره أي "مواطن" كردي أو عربي بدرجات متفاوتة. فأبناء سوريا كرداً وعرباً وأقليات وأكثرية هم أبناء بنية اجتماعية سياسية واحدة، والتنوع الموجود الذي يحتفي به الكثيرون له طابع كمّي وتدرّجاتي أكثر من كونه نوعي وأفقي، أي أن ثقافة الكرد السياسية لم تأتِ من المريخ، وثقافة الأقليات المتحررة تصبح أكثر من متزمّتة عندما يتعلق الأمر بالخروج عن الجماعة أو الخروج عليها، وثقافة الفقراء تتشارك العادات البطريريكية والمعتقدات الدينية أو العائلية ذاتها مع الأغنياء، وأن الشعب السوري كله هو مجرد أقليات كثيرة مختلفة ومتخالفة جداً لكنها متشابهة جداً في الوقت ذاته. وبصياغة "طهطاوية": قد نجد كثيراً من الديمقراطيين الأكراد أو العرب أو السنة أو الدروز أو غيرهم ولكننا لن نجد ديمقراطية كردية أو عربية أو أقلوية أو سنيّة في أي مكان في سوريا.
إن الاستماع إلى الديكتاتور الذي فينا، لن يجعلنا نشبه الديكتاتور الذي يحكمنا، بل في الحقيقة يساعدنا في التخلص منه، فعلياً ورمزياً
هذه الثقافة هي ثقافة سياسية في سوريا، وهذا لا يعني أننا نريد إعادة السياسي إلى ثقافي على الطريقة الثقافوية التبسيطية، بل يعني أن الثقافة المجتمعية تلعب دوراً مهماً، أو الدور الأهم، في خلق السياسة، وفي شكل الكيانات السياسية وطبيعتها ومضمونها والعلاقات السائدة بينها. وذلك يعني أنه على الثقافة السياسية أن تواجه نفسها بما فيها من عناصر ديكتاتورية إذا أرادت أن تصنع عقداً اجتماعياً جديداً. وعلينا أن نواجه ما فينا من عناصر فاشية ومن طبيعة نافية للآخرية، وما بثقافتنا من إلغاء فردي واجتماعي وسياسي للآخرية، فوحدها ديكتاتورية تلغي. ومهما كان حديث النخب عن أفكار التسامح والانفتاح وعدم إلغاء الآخر جميلاً وغنائياً، فما زلنا لم نر عملياً ولو عشرة سوريين التأموا في بنية تنظيمية واحدة ونجحوا، مع أن معظمهم قد يكون مؤمناً بالفعل بأنه لم يلغ أحداً، وبعضهم قد يكون ذكياً وناجحاً جداً كفرد وحدَه.
إن الاستماع إلى الديكتاتور الذي فينا، لن يجعلنا نشبه الديكتاتور الذي يحكمنا، بل في الحقيقة يساعدنا في التخلص منه، فعلياً ورمزياً، (ومرة أخرى لا نتحدث عن المعنى النفسي وحده هنا، ولا نعطي جلسة علاج نفسي)، فالتخلص من الديكتاتور الذي فينا أو خارجنا لا يقف عند المعنى الفردي بل يحتاج لضم المعنى الاجتماعي والانتقال إلى مستوى سياسي و"مدني".
عندما يفكر أي سوري مهما كان بسيطاً أو عبقرياً في القضية السورية اليوم، لن يجد في رأسه ولا خارج رأسه حلاً لها، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون، هو أن هذا ما يحصل مع الأسد ذاته، فهو أيضاً مثل أي سوري لا يملك أي حل (بل هو لا يملك إلا المشكلات)، وهذا الانغلاق والتعقيد هو ما قد يراه أميركي أو فرنسي أو أي شخص على وجه البسيطة. لكن هناك اعتراضان وجيهان على هذا الكلام، الأول هو أنه لا يمكن الحديث عن حل طالما الأسد في السلطة، وبالتالي الحل يبدأ برحيله أو هو رحيله، والثاني هو أنه لو أرادت أميركا الحل لفرضته. بالنسبة للاعتراض الأول فهو صحيح من حيث المبدأ ولكن يعلم الجميع أنه لم يعد كافياً، فالمشكلات التي سيتركها خلفه لم تعد مشكلات لاحتلالات متنوعة ومتضاربة فحسب، بل هي مشكلات اجتماعية تتعلق بالعرب والكرد والسنّة والعلويين والموالاة والمعارضين والقتلة والمغدورين، ومشكلات اقتصادية تضع الآن 92 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، ومشكلات سياسية تتعلق بمعنى سوريا كدولة أمام انقسامها الثلاثي العميق.
أما الاعتراض الثاني فهو يحمل مع صحته النسبية مشكلة أخرى، فتدخّل أميركي أو دولي قد ينهي المأساة فعلاً، لكن علينا أن نفكر أنه بعد التدخل "المُفترض" لا يمكن تركنا وحيدين، وهنا تبدأ المشكلة. فلا الأميركان وحلفهم الغربي سيريدون البقاء في سوريا واستعادة الدور العراقي القديم والفاشل، وإن فعلوها ورحلوا مسرعين فستأكلنا الدول الإقليمية المتضاربة كما هي تفعل الآن بشكل مسبق. وهذا ما سيجعلنا إذاً نحتاج إلى وصاية دولية، لكن من يمكنه أن يجهل أن الوصاية الدولية لن تحل المشكلة فيما بيننا إن لم نبدأ نحن أنفسنا، ومنذ الآن بالتأسيس لحلها.
ليس لدينا سوى منهجين من الخيارات: انتظار الحل من الخارج، وهذا ما سيجعلنا ننتظر الديمقراطية في إيران ثم في تركيا والسعودية وحتى في روسيا، لكي نحصل على بلد ديمقراطي. أو بالعكس، البدء منذ الآن بالتأسيس لفكر وعمل ديمقراطي بيننا أفراداً وكيانات وجماعات وأحزاباً وحركات سياسية. لكن قبل البدء بذلك ومن أجل نجاحه، علينا الاستماع للديكتاتور جيداً، فهو يخبرنا كثيراً عن أنفسنا، حيث هناك mini fascist أو فاشيٌّ صغير (بلغة فوكوية) في كل منّا، لا بد من تعلم مواجهته إن أردنا أن نُحدث فرقاً في قضيتنا ونصبح فاعلين في مصيرنا.