يحيل العنوان المستخدم في هذا المقال إلى عنوان أحد كتب نيتشه المعروفة وهو "ما وراء الخير والشر"، وليس مهماً في تلك الإحالة المعنى الأخلاقي لمن يمثّل الخير ومن يمثّل الشر في ثنائية النظام/المعارضة، طالما أن المبدأ السياسي الحاكم لتلك الثنائية واحد. فإن كان النظام بالنسبة للمعارضة هو تمثيل للشر، فإن المعارضة بالنسبة للنظام هي تمثيل للشر بالمقابل، وكل طرف في تلك الثنائية هو تمثيل للخير في عين ذاته، وبالتالي يصبح المبدأ الحاكم للرؤية واحداً، ويصبح وجود إحدى حدّي الثنائية هو بديهياً نفي للأخرى.
لكن ما وراء كل من النظام والمعارضة هناك بلد اسمه سوريا، بالأحرى هناك كيان سوري فارغ شكلاً اسمه "الدولة السورية" لكنه كيان مليء أو معبأ مضموناً ويتعيّن "بالشعب" أو الناس السوريين الذين لم يعد أحد يعرف تعدادهم، لكن الجميع يعلم أنهم إما منفيين في الخارج أو جائعين في الداخل، يتقاسمون المنافي والهجرة والنزوح والجوع والصمت، لكنهم يتشاركون الهوية السورية كلعنة سحرية في زمن نُزِع عنه السحر.
ما يجمع أولئك السوريين في الداخل والخارج هو أنهم منقوصي التمثيل السياسي، فلا النظام يمثّل مصلحة من يحكمهم، ولا المعارضة قادرة على تمثيل مصالح من خرجوا ضد النظام. وعندما نتحدث عن تمثيل المصلحة، فنحن لا نقصد من هو مُعترف به سياسياً أو شرعياً، ولا نقصد أيضاً أي معنى أخلاقي مجرد، فالمصلحة هي مسألة مشخّصة ويمكن تحديدها، والجميع بات يعلم اليوم أن نظام الأسد على هذا المستوى لم يعد إلا سرطاناً يأكل في الجسد السوري، ولا يعنيه على الإطلاق إن مات السوريون جوعاً أو إن احتلّت أرض سوريا جميع الدول، وليس من مصلحة السوريين أياً كانوا بقاؤه، بل لن يمثّل بقاؤه بالقوة إلا زيادة في فقر السوريين وعزلتهم وموتهم قهراً وجوعاً حتى لو انتصر أو بقي لمئة سنة أخرى.
إذا كان النظام قد مثّل قراراً مركزياً سلطوياً واحداً، فالمعارضة مثّلت انعدام القرار على الإطلاق والخلاف على أصغر قرار تفصيلي إلى درجة من الشرذمة التي تمنع أي قرار موحّد
أما المعارضة التي تنطّعت لتمثيل كل من يعارض الأسد في الهيئات السياسية والمحافل الدولية فقد كانت وما زالت على العكس تماماً مما مثّله النظام، فإذا كان النظام قد مثّل القوة الوحشية فهي قد مثلت الضعف المحض، وإذا كان النظام هو صاحب السلطة المطلقة على أتباعه، فهي لم تملك سلطة على أحد، حتى لو كان "أبو عمشة" أو أي فصيل محلي صغير. وإذا كان النظام قد فرض الاحترام القائم على الخوف والإرعاب، فهي قد فرضت قلّة الاحترام القائم على التبعية وانعدام الشخصية، وإذا كان النظام قد مثّل قراراً مركزياً سلطوياً واحداً، فالمعارضة مثّلت انعدام القرار على الإطلاق والخلاف على أصغر قرار تفصيلي إلى درجة من الشرذمة التي تمنع أي قرار موحّد. ولذلك فالمعارضة الحالية هي أقل من أن تمثّل مصلحة السوريين، فلا لديها المؤهلات الذاتية لتفرض وجودها بقوة تفاهماتها، ولا لديها القيمة الموضوعية لتفرض أجندتها "غير الموجودة" على أحد.
لكن على الرغم من ذلك، هناك واقع يفقأ العين ويفرض نفسه على كل من يرى، وهو أنه لا يمكن لوم المعارضة وتحميلها المسؤولية بالطريقة ذاتها كما النظام، ولا يمكن الحديث على طرفين متساويين بأي شكل وأي معنى (كما يفعل الحياديون ومن يسري في عروقهم دم بارد وسميك)، وذلك لا لأن المعارضة "شريفة" أو لأنها لا تستحق اللوم، بل لأنها ليست هي من يملك الدولة، فالواقع هو أن هناك مقدّرات دولة كاملة تم بناؤها بأجساد السوريين وأعمالهم وأموالهم، وهذه الدولة يملكها النظام منذ خمسين عاماً، لديه مفاتيحها ومستنداتها، يبيعها أو يؤجرها أو يتخلى عن بعض أراضيها دون مشورة أحد، (وهذا ما فعله فعلاً بأكثر من مناسبة)، ولديه صك شرعي من الأمم المتحدة بملكيتها وأحقيته بالملكية، وحتى بطلب التدخل الخارجي "شرعياً" لحماية ملكيته. وهذا الواقع هو ما يمنع وضع المعارضة مع النظام في الخانة ذاتها من حيث المسؤولية، ولا في أنها العائق الأساسي أمام تغيير حال السوريين وإخراجهم من بؤسهم الشامل لجميع السكان، فلم يبق شيء مشترك بين السوريين اليوم أكثر من بؤسهم.
إن قيمة التطبيع العربي هي أولاً وقبل كل شيء بطاقة شكر وامتنان للنظام السوري الذي أوقف الربيع العربي من الامتداد لبلدان التطبيع ذاتها
ما وراء النظام والمعارضة إذاً، هناك السوريون المنفيون عن العالم في الداخل، والسوريون المنفيون على العالم في الخارج، وأولئك السوريون هم من لا تراهم على الإطلاق أنظمة التطبيع العربي، وهم من لا يعنيها مصلحتهم أبداً كشعب بلا دولة (لا لأنه ليس هناك دولة، بل لأن وجود الدولة الحالي قائم على إلغاء الشعب)، فالتطبيع العربي لن يجلب أي منفعة طويلة أو قصيرة الأمد للسوريين، لأن أي مساعدة مالية ستأتي على سبيل المثال، إن كان لإعادة الإعمار أو لإيقاف الكبتاغون، لن يذهب منها قرش واحد للسوريين، فالنظام الذي كان يسرق مساعدات الأمم المتحدة من أفواه السوريين العاديين موالاة ومعارضة، لن يوفر مالاً مقدماً له مباشرة ودون حتى وصل استلام. وأما بالمعنى السياسي، فالتطبيع العربي لا يستهدف مساعدة السوريين، بل التخلّص منهم، إعادتهم وحشرهم في سوريا حتى لو في السجون أو المخيمات، كما أن الاعتراف السياسي العربي بالنظام لن يجلب له أي قيمة سياسية مضافة على المستوى الدولي، فطالما أن عقوبات قيصر شغالة بوصفها قانوناً، وطالما أن الاعتراف السياسي الأميركي والأوروبي ملزم بالقرارات الدولية، فإن الاعتراف العربي لا قيمة فعلية له بالنسبة للسوريين، ولا انفراجاً لأزمتهم الاقتصادية والسياسية والوجودية سيأتي عبره.
إن قيمة التطبيع العربي هي أولاً وقبل كل شيء بطاقة شكر وامتنان للنظام السوري الذي أوقف الربيع العربي من الامتداد لبلدان التطبيع ذاتها، وأعطى؛ عبر ما فعله بالسوريين، درساً دموياً مثالياً لكل من يفكر بالخروج على الأنظمة أو المطالبة بإصلاحات سياسية، لكن الدرس الأفضل كان للأنظمة المُطبّعة ذاتها عبر إعطائها نموذجاً فعّالاً عن كيف تهدد الآخرين بقتل شعبك ذاته وتهجيره إليه، وكيف يمكن أن تجد حلفاء حتى في أكثر من تشهر عداوتهم على مر الزمان. والتطبيع العربي هو ثانياً ليس تطبيعاً مع الشعوب بل تطبيعاً للشعوب، هو تطبيع مع الحليف الحقيقي لتلك الأنظمة، تطبيع مع الشبيه والأخ القاصر، فعند تلك الحدود تلتغي الفوارق والحواجز والأحلاف الدينية والطائفية السابقة ويصبح لا فرق بين نظام سنّي وآخر شيعي حتى بالتقوى، ويصبح المُهدد الوجودي سبباً للوجود.
ما وراء النظام والمعارضة، هناك "شعب" سوري لن يستطيع العالم تجاوز مأساته ببساطة وكأنها لم تكن، ولن يتمكن أحد من فرض التطبيع عليه وإعادة الملايين قسراً إلى قاتلهم، لكن بالمقابل، لا يبدو أن أحداً قادر على إنقاذ هذا "الشعب" إن لم يبدأ من مصالحه الكامنة ما وراء النظام والمعارضة.