مطلع عام 2019، وفي مخيم منسي يقبع بمنطقة محرّمة بين الأردن وسوريا، أحرقت سيدة سورية نازحة نفسها لتبعث رسالة للمجتمع الدولي أن "انظر في حالنا نحن محاصرون".
حاولت السيدة سُندس فتح الله آنذاك لفت نظر العالم إلى حالها وحال آلاف النساء والأطفال الرازحين في "مخيم الركبان"، أو ما بات يُطلق عليه اسم "مخيم الموت"، تحت وطأة حصار يفرضه النظام السوري وروسيا ضمن بقعة صحراوية قاحلة تُدعى منطقة الـ 55 كلم (نسبة إلى نصف قطر المساحة التي يسيطر عليها الجيش الأميركي).
لا يُعلم اليوم حال السيدة سندس، التي أصيبت آنذاك بحروق ونُقلت للعلاج في الأردن، لكن المعلوم هو أن نحو 8 آلاف شخص – بحسب آخر إحصائية - لا يزالون يعيشون واقعاً مأساوياً في ظل شح المساعدات الإنسانية، وعجز طبي قد يصل إلى حد وفاة امرأة حامل وجنينها في حال احتاجت عملية قيصرية.
لمَحَ النازحون بالمخيم في شهر حزيران 2023 بصيص أمل تمثّل في كسر حصار جزئي وإدخال بعض من حاجيات قاطنيه، في عملية أطلق عليها اسم "الواحة السورية"، لكن ما لبث أن بدأ البصيص بالخفوت بعد حديث عن عرقلة قد تحول دون استمرارها.
نطرح هنا سؤالاً يتردد على الألسنة، بعد مضي نحو 8 أشهر على بدء عملية الواحة؛ هل سدّت المساعدات حاجة السكان؟ هل ستستمر؟ وكيف هو واقع المخيم اليوم؟.
حصار وتجاذب روسي - أميركي
عام 2014، وصل مئات النازحين السوريين إلى منطقة الـ 55 قادمين من مناطق مشتعلة في أرياف حمص ودير الزور - غالبيتهم من القريتين ومهين وتدمر- بغية دخول الأردن، ليجدوا أنفسهم عالقين في الصحراء، أمامهم حدود المملكة المُغلقة، وخلفهم شريط خوفٍ حدوده مناطق سيطرة النظام السوري.
نصب العالقون آنذاك خيماً، ظنّوا أنها مؤقتة، لينطلق بعدها عداد الأيام، ولتبدأ حاجات النازحين بالازدياد مع إعلان الأردن، منتصف 2016، حدوده مع سوريا والعراق منطقة عسكرية بعد تفجير تنظيم "الدولة" (داعش) سيارة ملغّمة في موقع للجيش الأردني أسفر عن مقتل 6 جنود وإصابة 14 آخرين.
ووصلت الحاجة إلى أقصاها عام 2019، مع سلسلة من الحصارات بدأها النظام السوري عام 2017، تخللها السماح بإدخال بعض الاحتياجات الأساسية إلى المخيم بين الحين والآخر، تزامناً مع بدء مرحلة تجاذبات بين موسكو والنظام السوري من جهة، وواشنطن بالجهة المقابلة.
موسكو والنظام السوري دعا واشنطن في تصريحات سابقة إلى تفكيك المخيم، في حين اشترطت الأخيرة إجراء عملية إجلاء منظّم للنازحين بالتنسيق مع الأمم المتحدة، وهو ما لم يتم التوافق عليه حتى اليوم.
ووجّهت موسكو اتهامات لواشنطن بتبنيها "تفكيراً استعمارياً" حيال المخيم، وأنها "لا تهتم بالكارثة الإنسانية التي تسببت بها في المخيم"، في حين اعتبرت أنه "من المفيد للولايات المتحدة الاحتفاظ بالمخيم أكثر قدر ممكن من الوقت في التنف من أجل تبرير وجودهم غير القانوني في جنوبي سوريا".
والتنف هي قاعدة عسكرية أسستها الولايات المتحدة عام 2016 في المنطقة التي تشكل المثلث الحدودي بين سوريا والأردن والعراق، واعتبرتها نقطة انطلاق ومركزاً لعمليات "التحالف الدولي" ضد تنظيم "داعش".
بالمقابل، تبنّت واشنطن، بحسب تصريحات مسؤولين، رؤية الأمم المتحدة في سبيل إيجاد حل مستدام لأزمة الركبان وفقاً لمعايير الحماية، مع التأكيد على ضمان "مغادرة آمنة وطوعية للراغبين".
"موت بطيء أو اعتقال"
وجد عشرات الآلاف من النازحين في الركبان أنفسهم، إبّان اشتداد الحصار، أمام خيارين أحلاهما مر، الأول يتمثل بالعودة إلى مناطق النظام السوري، الذي ضغط بحصاره في هذا الاتجاه، وتعريض أنفسهم لخطر الاعتقال، والثاني "الموت البطيء" في ظل ظروف مأساوية.
خرج أكثر من 40 ألف شخص – حصيلة غير رسمية - من المخيم خلال السنوات الخمس الماضية، ما بين 2019 و2021، رغم عدم حصولهم على أي ضمانات فيما يخص أمنهم من قبل الأمم المتحدة التي دفعت باتجاه خروجهم وحملتهم، بمشاركة منظمة "الهلال الأحمر السوري"، إلى مراكز احتجاز يديرها أمن النظام وقواته.
لا يوجد حصيلة موثّقة شاملة لأعداد المُعتقلين على يد أجهزة النظام الأمنية بعد مغادرتهم للمخيم، رغم إحصاء المئات، لكن ما هو مؤكد اعتقال 20 شخصاً على الأقل خلال الفترة الماضية بعد توجههم لتلقي العلاج في مناطق سيطرة النظام، بحسب عضو هيئة الشؤون المدنية في المخيم محمود الهميلي، الذي أشار إلى أن 4 على الأقل قضوا في السجون وسُلّمت وثائقهم الثبوتية لذويهم.
وأكّد الهميلي أن هؤلاء المُعتقلين تعرضوا للابتزاز والاستغلال، وطُلب من ذويهم دفع مبالغ مالية كبيرة مقابل إطلاق سراحهم، مبيناً أن نحو 15 من المعتقلين الـ 20 ما يزالون قيد الاختفاء القسري.
وكانت "الرابطة السورية لكرامة المواطن"، وهو تجمع حقوقي مقره إسطنبول، قد كشفت عن انقسام معتقلي الركبان إلى مجموعتين، الأولى تضم المنشقين عن قوات النظام، وهؤلاء زُجّ بهم في سجون عسكرية.
أما المجموعة الثانية فتضم شباناً مطلوبين للخدمتين الإلزامية أو الاحتياطية، وهؤلاء زُجّ بهم في سجون مدنية، مشيرة إلى المعتقلين كافة مرّوا على ما تسمى "محكمة الإرهاب".
بارقة أمل
في 20 من حزيران 2023، أطلقت المنظمة السورية للطوارئ عملية حملت اسم "الواحة السورية" لكسر الحصار عن مخيم الركبان وإيصال المساعدات الإنسانية للمحاصرين فيه، وذلك عبر طائرات شحن عسكرية أميركية.
وأكدت المنظمة، في بيان آنذاك، أنها "ستضع حداً لحصار مؤلم دام ثماني سنوات فرضه نظام الأسد وروسيا وإيران على مخيم الركبان"، مشيرة إلى أن "المدنيين التمسوا الأمان في منطقة منع الاشتباكات التي يبلغ طولها 55 كيلومتراً المحيطة بقاعدة التنف العسكرية الأميركية، بعد اتهامهم ظلماً بأنهم إرهابيون من قبل النظام السوري، وعانى هؤلاء النساء والأطفال والرجال من ظروف معيشية بائسة وحرمان شديد من الضروريات الأساسية بسبب الحصار الذي منع وصول أي مساعدات إليهم".
منسق الأعمال الإنسانية في المنظمة، أحمد كنداوي، قال إن العملية اعتمدت على برنامج "دينتون" الخاص بوزارة الدفاع الأميركية والذي يسمح للمواطنين الأميركيين والمنظمات الخاصة باستخدام المساحة المتاحة على طائرات الشحن العسكرية الأميركية لنقل البضائع الإنسانية إلى البلدان المحتاجة، بما فيها: "المعدات الزراعية، الملابس، المستلزمات التعليمية، الطعام، والإمدادات الطبية والمركبات".
وأضاف، في تصريح لموقع تلفزيون سوريا: "عملنا على مدار عامين للحصول على الموافقة، وبعد أن ظفرنا بها بدأنا العمل على التجهيز لنقل المساعدات في المساحة المتاحة ضمن الطائرات العسكرية التي تنطلق من قاعدة عين الأسد في العراق إلى التنف".
وذكر كنداوي أن العقبة الرئيسية التي واجهتهم كانت عدم وجود سوريا على قائمة الدول التي يدعمها برنامج "دينتون"، وهو ما أخّر العملية، مشيراً إلى أن المساحة المتاحة في الطائرات تتغير والمدة الزمنية غير ثابتة: "أحياناً قد نحصّل مساحة تكفي لخمسة صناديق كبيرة، وأحياناً قد نجد مكاناً لصندوق أو قد لا نجد".
وتابع: "كذلك هو الأمر بالنسبة للمدة الزمنية فهي غير ثابتة، في أحد الأشهر ربما نتمكن من إرسال أكثر من شحنة، وفي أشهر أخرى قد لا نوفّق بذلك".
ماذا قدّمت عملية "الواحة"؟
كتب مدرسية، مواد غذائية تضمّنت زيت دوار الشمس وأرزاً وعدساً وحمصاً وسكراً ودبس البندورة وعلب تونة، إضافة إلى مواد زراعية مثل بذار القمح والخضار وأسمدة كيماوية. هي مجمل المواد التي دخلت إلى المخيم من خلال عملية "الواحة السورية".
منسق الشؤون الإنسانية في المخيم، "أبو محمد"، قال لموقع تلفزيون سوريا إن الشحنات دخلت في 10 دفعات منذ حزيران الماضي، آخرها وأكبرها دخلت الأسبوع الماضي وتضمّنت بغالبيتها مواد غذائية.
من جانبه فصّل الهميلي مواد السلّة الغذائية، وقال إن العائلة الواحدة حصلت على نحو 5 كيلو غرامات من الأرز، إضافة إلى 8 عبوات من الزيت – حجم الواحدة 700 ملم – و3 كيلوغرام من الحمص ومثلهم من العدس (المجروش)، وكيلوغرامين من العدس (غير المجروش)، وكيلوغرامين سكر، إلى جانب 10 علب تونة ونحو كيلوغرام واحد من دبس البندورة.
الهميلي أشار إلى أن المساعدات المذكورة وزّعت على نحو 75 في المئة من سكان المخيم – على نحو 1250 عائلة - واستُثنيت منها العوائل التي لديها مدخول شهري، مبيناً في الوقت نفسه أن هذه الحصة تكفي عائلة متوسطة لمدة شهر أو شهر ونصف على أبعد تقدير.
وأضاف: "الحصص وصلت على أجزاء لذلك كان تأثيرها بسيطاً مقارنة مع الواقع السيئ في المخيم، وفي حال أردنا وصف حال النازحين بنسبة مئوية، فقد تحسن بنسبة لا تتجاوز 5 في المئة".
وأكّد الهميلي أن إدخال المواد وتوزيعها هو "كسر حصار معنوي" أكثر من كونه كسر حصار مادي، خاصة أنه جاء بعد سنين حصار حُرم منها المخيم من أبسط الحاجيات، لكنه في الوقت ذاته أشار إلى أن الجانب التعليمي "انتعش" إلى حد ما بعد وصول آلاف الكتب المدرسية.
بدوره قال كنداوي إن منظمة "جلوبال جستس" تكفّلت بتأمين الكتب للصفوف الابتدائية والإعدادية، ورواتب المدرسين، في حين أمّنت "السورية للطوارئ" ألواح كتابة (سبورة) للصفوف ونظّمت نشاطات للأطفال خلال فعاليات توزيع "الجلاءات المدرسية" تضمت توزيع هدايا، مبيناً أن ما سبق انعكس بشكل أو بآخر على رغبة الأولاد في الذهاب إلى المدرسة.
مشفى من دون أطباء
"1790 عائلة، أي 8 آلاف إنسان لا يجدون طبيباً يزورونه في حالة المرض"، إجابة مختصرة قالها الهميلي عند سؤاله عن الواقع الطبي في المخيم.
يضم الركبان نقطة طبية واحدة، تُسمى تفخيماً بمشفى شام، لكنها لا تحوي أيّاً من معدات المشافي ولا حتى النقاط الطبية الميدانية، إذ لا أجهزة ولا مختبر تحليل، ممرضتان و"قابلتان" فقط.
وفي هذا الخصوص بيّن كنداوي أن دعم القطاع الطبي في المخيم "هو الأكثر إلحاحاً، وفي حال احتاج أي شخص عملية جراحية، يُوضع أمام خيارين، إما الخروج إلى مناطق النظام عبر طرق التهريب بعد دفع مبلغ مالي قد يصل إلى 3 آلاف دولار، أو الانتظار والموت البطيء".
وبيّن أن كثيرين "ماتوا ببطئ" في المخيم لرفضهم الخروج إلى مناطق النظام، وعدم قدرتهم، في حال رغبوا، على دفع آلاف الدولارات للوصول تهريباً وتجنّب ملاحقتهم أمنياً، في حين أشار إلى أن هناك بعض الحالات المرضية تُخرجها منظمة "الهلال الأحمر"، وعددها لا يتجاوز الأربعة خلال الشهر الواحد، وغالباً هم أشخاص غير ملاحقين.
وأضاف المنسق أن المخيم بحاجة إلى أطباء من جميع الاختصاصات، من دون استثناء، وأشار إلى أن المنظمة حاولت في عملية كسر الحصار إدخال أطباء، لكن المحاولات اصطدمت ببروتوكولات حالت دون الأمر.
وأكّد كنداوي أن عمليات الولادة، وخاصة القيصرية، هي معضلة تحتاج إلى كثير من التنسيق والاتصالات لتأمين طبيب من "قوات التحالف" الموجودة في التنف، مع عدم قدرة "القابلات" على إجرائها، مشيراً إلى أن المخيم يشهد 4 أو 5 حالات شهرياً.
مياه ملوثة وبضائع مهرّبة بضعف السعر
وسلّط الهميلي الضوء على أزمة مياه الشرب، إذ أكّد أن المياه التي تضخها منظمة اليونيسيف من الأردن ملوثة، مبيناً أنها حُللت عدة مرات وفي كل مرة تأتي النتيجة ذاتها: "غير صالحة للشرب".
وقال إن "هناك منظمات إنسانية وجهات فاعلة ظنّت أن حاجة المخيم تغطت في ظل عملية الواحة السورية، لكن الحاجة أكبر بكثير، والمخيم بحاجة إلى أضعاف هذا الدعم لكي يتنفس الصعداء".
بدوره قال حمود، وهو ناشط إعلامي موجود في الركبان، إن بعض الحاجيات تدخل المخيم عبر طرق التهريب تارة وعبر رشاً لقوات النظام السوري تارة أخرى، وهو ما يؤدي إلى زيادة في أسعارها بنسب تتراوح ما بين 40 و50 في المئة.
ويرى محمود أن المخيم بحاجة، إضافة إلى الاحتياجات الرئيسية، إلى الدفع بعجلة تأسيس مشاريع قد تخفف من نسبة البطالة المرتفعة، إضافة إلى مساعدات وصفها بالنوعية، مثل "عوازل بلاستيكية للأسقف، وأدوات ومواد تنظيف".
ما مستقبل عملية "الواحة"؟
لم يخف الكنداوي، وهو أحد القائمين على تنسيق العملية، قلقه من قادم الأيام، إذ قال إن عمليات نقل المساعدات واجهت خلال الفترة الأخيرة مشكلات لوجستية، وإن المساحة المُتاحة في طائرات النقل العسكرية تضاءلت، خاصة بعد تكثيف الميليشيات المدعومة من إيران لضرباتها على القواعد الأميركية في سوريا والعراق.
وأضاف أن الموافقة على نقل المساعدات ما تزال موجودة، لكن لا أحد يعلم ما ستحمله الأيام القادمة، خاصة إذا ما استمر الوضع الأمني في التدهور: "عملية الواحة كانت بصيص الأمل الوحيد لآلاف القاطنين في الركبان، واليوم نخشى أن يخفت".