بعد توقيع وثيقة (اتفاقية) هلسنكي في فنلندا عام 1975 لرتق الأزمات الجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ودول أوروبية أخرى، إبان الحرب الباردة، تمخضت الاتفاقية عن قرارات عديدة اقتضت بدورها تمكين العلاقات السياسية والقضايا الاقتصادية بين البلدان الموقعة، والعمل الجدّي في قضايا حقوق الإنسان. عقب ذلك، بدأت نتائج إيجابية تلوح في الأفق، بما يخص السلم العالمي (في المقام الأول الدول الأوروبية)، والسعي إلى تحسين وضع تلك البلدان السياسي والاقتصادي، ومنع نشوب أزمات بين المعسكرين الشرقي والغربي، والتصدي للكوارث الإنسانية والاقتصادية الناجمة عن الحروب. تحولت تلك الاتفاقية بعد ذلك إلى "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا"، والتي تضم في عضويتها 65 دولة.
وعليه؛ يحاول الروس، في الفترة المنصرمة (بعد التدخّل العسكري في سوريا 2015)، وحتى الآن، إلى إنشاء منصة شبيهة بمخرجات اتفاقية هلسنكي، تكون في الشرق الأوسط، تجمع دول المنطقة، بالإضافة إلى إيران، الذي سيكون وجودها أمراً مقلقاً، أو قبوله على مضض من جانب الأطراف الخليجية، التي تعتبر واشنطن حليفتها الأولى، وتشير دائماً إلى الخطر الإيراني الداهم الذي يهدد أمنها!
وخلال هذا السعي، الذي تراقبه واشنطن، وخاصةً تحركات "بوتين" بين دول الخليج، وتعنّته في الملف السوري، علاوة على "التحالف الجزئي الاقتصادي والعسكري" مع تركيا، ومكايدة واشنطن بعقد صفقات مع بعض حلفائها، نجد أن "حُلم" موسكو في إنشاء تحالف استراتيجي كما ذكرنا على غرار اتفاقية هلسنكي، سوف يكون صعباً، لأمرين: الأول، أن واشنطن قادرة على كسر أي تحالف لا يخرج من تحت عباءتها، ولا يصبّ في مصلحتها، ولديها ما يكفي من الأدوات لوأد هذا المشروع في مهده، على الأرض السورية، أو في دول الخليج، التي يرى فيها بوتين مموّلاً اقتصادياً كبيراً للتحالف المنشود. أما الثاني، هو أن بوتين لم يزل مقتنعاً بلعب دور المغامر في خوض حرب باردة أخرى مع أميركا - طبعاً الحلبة هي سوريا، وكأنه لم يرَ خسارة الاتحاد السوفييتي أمام أميركا في مطلع التسعينيات المتمثلة في انتهاء حربهما الباردة، إضافة إلى ذلك، أن واشنطن فعلياً هي الآن ضمن حرب باردة، لكن مع الصين؛ لذا، هكذا تحالف يسعى إليه بوتين، لن يكون سوى مناكفة سياسية، أو محاولة استراتيجية عبثية لن تجدي نفعاً، وخاصةً أمام تداعيات الشأن العربي في المنطقة، مثل الحرب في اليمن، والوضع السياسي والاقتصادي في لبنان، والمأزق الإيراني الغربي في الملف النووي، والمستنقع السياسي العراقي، يضاف أيضاً، عدم وضوح سياسات دول كثيرة حول مصير "الأسد"؛ هذا ولم نتطرق إلى قضايا أخرى، منها ما تسمى "الحرب على الإرهاب" التي تركزت في سوريا، فهذه القضية لم تحسم بعد، إذ إن خلايا تنظيم الدولة تنشط من جديد في البادية السورية، ومناطق "قسد"، في دير الزور والحسكة، ومن جانب آخر، قضية الشمال السوري (إدلب) التي تعتبر مسألة شائكة بالنسبة لموسكو ونظام الأسد، الذي يحاول إعادة ترقيع شكله السياسي باستجداء الشرعية من قبل بعض دول الخليج، ومعارك جانبية ليست بقراره، أو أكذوبة المصالحات في المدن السورية، ومؤخراً في درعا ودير الزور! ولا بدّ أن نذكر أيضاً اللاعب التركي، حيث لن تسمح أنقرة باندلاع حرب واسعة النطاق على حدودها، قد تؤثر على أمنها القومي.
سوف يتجنب الأسد الإشارة إلى علاقة الإمارات والبحرين مع "إسرائيل"، رغم دراية الجميع بأن نظام الأسد (الأب والابن) كان "الرئة الحرام" المنعشة لمخططات القادة الصهاينة في تل أبيب
بالتالي، سيعود بوتين إلى المربع الأول، وهو تسويف الوقت، وإضاعته، كما فعل في مسار أستانا، مع خلق ضغوطات منها عسكرية على مقاتلي إدلب، وسياسية أغلبها على أنقرة، كي يُمهد لفصل آخر من فصول عمليات المصالحة في إدلب، مع المطالبة بتسليم السلاح الثقيل، لإنشاء قطّاع أو بؤرة ساخنة شبيهة بقطاع غزة، تكون محاصرة بذريعة الفكر الجهادي، أو وجود خلايا مقاتلة متشددة.
أما عن بشار الأسد، حالياً كما يرى الجميع، تهافت بعض دول الخليج إلى إعادة العلاقات مع نظامه، فضلاً عن دول عربية أخرى لم تقطع علاقاتها معه كمصر والجزائر والعراق، وحتى الأردن، الذي لم يغلق سفارته في دمشق، أعاد علناً وبشكل سياسي شرعنة قاتل ومجرم حرب. وشاهدنا أيضاً زيارة وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد لدمشق ولقائه مع بشار الأسد يوم الثلاثاء الماضي، لتكون "العجلة العربية" قد سارت إلى الأمام، وهي تدهس كل شهداء سوريا، وقد تعلن لاحقاً دعوة الأسد إلى القمة العربية في الجزائر خلال آذار المقبل في عام 2022، تمهيداً لفتح جميع الأبواب أمامه، وحتماً، سوف يتجنب الأسد الإشارة إلى علاقة الإمارات والبحرين مع "إسرائيل"، رغم دراية الجميع بأن نظام الأسد (الأب والابن) كان "الرئة الحرام" المنعشة لمخططات القادة الصهاينة في تل أبيب، ابتداءً من حربه على الفلسطينيين في لبنان، ووصولاً لتنفيذ وظائف مباشرة أو غير مباشرة في الوطن العربي، وسوريا، آخرها كانت تدمير الشعب السوري وتفكيك مجتمعه، مع ضرب رمزية الوجود الفلسطيني في سوريا، ووأد أي حراك أو مطالبات تنادي بتحرير الأراضي المحتلة، بذرائع واهية كلنا عهدناها، يتشدق بها نظام الأسد؛ إذن.. لن يُصاب الأسد "بوباء الكرامة" إن صافح وزيراً "عربياً" أو عانقه، وكان قد جاء من "تل أبيب" بعد أن صافح كبار رجالات الموساد!
ويبدو في نهاية المطاف، أن بشار الأسد قد أخذ بنصيحة "مادلين أولبرايت" وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس السابق "بيل كلنتون"، حينما زارت سوريا في عام 2000 لحضور مراسم تشييع ودفن حافظ الأسد، والتي قالت للوريث بشار بحسب صحف غربية آنذاك "إننا نمضي إلى حل إقليمي تكون إسرائيل جزءاً منه". وشاهدنا جميعاً الزيارات المكوكية لــ بوتين، بين إسرائيل ودول عربية، تشير إلى محاولات حثيثة لتشكيل التحالف الذي ذكرناه في المقدمة، وأيضاً قد تفضي إلى ما أسرّت به أولبرايت لبشار الأسد، لكن ليس على الطريقة الروسية!
أخيراً.. ليس من المستغرب أن تضخ بعض دول الخليج أموالاً طائلة في سوريا لاحقاً، (بعد قمة الجزائر) لدعم إعادة الإعمار - بموافقة أميركية، ويتم استقطاب شركات استثمار غربية وروسية، وبالتزامن مع ذلك، يكون الأسد قد وافق أمام العالم أجمع على قرار الرئيس السابق "ترامب" بضم الجولان رسمياً للأراضي الإسرائيلية، ويعترف بحق العيش والسلام لشعب الاحتلال الإسرائيلي، ويأكل "الشاورما" مُجدداً، لكن ليس في أزقة دمشق، إنما في استراحة الغداء الخاصة باجتماع قمة تفكيك "محور الممانعة"!.