بعد أن أغلقت دول عربية ومنها دول مجلس التعاون الخليجي سفاراتها في دمشق بسبب جرائم نظام الأسد وانتهاكاته ضد السوريين، عقب اندلاع الثورة السورية في عام 2011، تتهافت الآن تلك الدول لإعادة "تدوير" النظام وشرعنة وجود بشار الأسد في السلطة. إذ إن دولاً عربية باستثناء الجزائر والعراق ومصر والأردن وعمان، انسحبت من التمثيل الدبلوماسي في دمشق ووجّهت خطاباً قاسياً إلى نظام الأسد، وذلك على خلفية مقتل "بضعة آلاف" من السوريين في بداية الحراك السلمي، علاوة على مقاطعة شبه كاملة، ترجمها السوريون أنها خطوة مهمّة تفضي إلى إيقاف القتل والتدمير والاعتقالات، وتضعف من موقف نظام الأسد السياسي في الساحة العربية والدولية. بالتزامن مع هذه القرارات العربية والخليجية، بعيداً عن موقف دول الغرب آنذاك تجاه بشار الأسد ونظامه، الذي كان خجولاً وغير واضح، أو بالأحرى غير صارم، لمحسوبيات كلنا عرفناها لاحقاً، قرر السوريون مواجهة النظام للدفاع عن أنفسهم، وبدأت الانشقاقات في الجيش، وتشكيل غرف عسكرية أدّت إلى خلق جسم عسكري معارض حرر كثيراً من الأراضي السورية بلا دعم عسكري حقيقي _خارجي_ سرعان ما رأت فيه أميركا ودول الغرب، والخليجيون خطراً قد يغيّر ميزان القوى الاستراتيجية في سوريا والمنطقة، ويُحفّز شعوباً أخرى على المطالبة بالتغيير، وخاصةً في دول الخليج؛ عندئذ، تم إنهاك وإضعاف الجيش الحر (الممثل العسكري للثورة) واختراقه، وأسلَمَة صفوفه عبر قيادات راديكالية تحمل فكراً أيديولوجياً متشدداً، حتى ظهر تنظيم ما يسمى بـ"الدولة الإسلامية"، الذي شُكل لمحاربته تحالفاً دولياً تقوده واشنطن، وتغاضى الجميع عن المقتلة السورية وجرائم "الأسد" والإيرانيين، والميليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية، فضلاً عن القتلة المأجورين التابعين لغرف المخابرات السورية!
كان الجميع يغض الطرف عن مجازر نظام الأسد وإيران، وذراعها "حزب الله" اللبناني بحق السوريين، واكتفوا فقط بالتنديد والاستنكار، ولم يشاهدوا سوى فصائل الثورة "الجيش الحر"، على أنها خطر ضمني يهدد استقرار سوريا، وهم في باطن الأمر، وكنهه، لا يريدون رحيل الأسد، لاعتبارات استراتيجية في المنطقة، وتقاطع مصالح، إضافةً إلى اصطدام بعض الدول التي طالبت وقتذاك بوقف العنف أو تقديم مساعدات إنسانية للسوريين بالفيتو المزدوج "الروسي والصيني" في مجلس الأمن! طبعاً، كان للوجود الإيراني ثقل كبير، وعائق صلب أمام أي إجراءات كانت لتحصل وتصبّ في مصلحة السوريين.
كان الجميع يغض الطرف عن مجازر نظام الأسد وإيران، وذراعها "حزب الله" اللبناني بحق السوريين، واكتفوا فقط بالتنديد والاستنكار، ولم يشاهدوا سوى فصائل الثورة "الجيش الحر"، على أنها خطر ضمني
وعليه؛ لا بدّ أن نذكر زيارة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان ضمن وفد زعماء الخليج في قمة كامب ديفيد 2015 التي قادها الرئيس الأميركي السابق "باراك أوباما"، وتمحورت حول التهديد الإيراني لدول الخليج، وأنشطة إيران في المنطقة، ودعم مجلس التعاون "عسكرياً". حيث سُرّبت معلومات مفادها أن بن سلمان قال لأوباما إن السعودية ليس لديها مشكلة مع نظام الأسد، بل إن التخوّف الحقيقي من إيران وميليشياتها. وعقب ذلك، بمدة قصيرة، خلال حزيران 2015، قام بن سلمان بزيارة إلى روسيا، وفي "سان بطرسبورغ" التقى مع بوتين، لإنهاء عقود صفقات أسلحة وملفات أخرى؛ وقتئذ دعا بن سلمان الرئيس الروسي بوتين إلى دخول سوريا، وفقاً لصحيفة الغارديان، وسعد الجبري المستشار الأمني في وزارة الداخلية السعودية، الذي هرب خارج المملكة في عام 2017 إلى كندا، وقدّم تصريحات عديدة في الإعلام الغربي، تخص تورط محمد بن سلمان بمحاولة اغتياله في كندا، وتنسيقه مع الروس في ملفات خطيرة، منها دعم التدخل الروسي في سوريا.
إذن، كما ذكرنا في مطلع الحديث، أن دولاً عديدة بدأت بإعادة تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، منها البحرين والإمارات، ومنذ مدة وجيزة أعاد الأردن علاقاته مع دمشق، ونرى الآن، أن السعودية تسير في الطريق ذاته، لكن بخطىً حذرة وغير معلنة بشكل واضح، إلا أنّ ما قد يشجّع الرياض إلى إعلان إعادة العلاقات مع نظام الأسد وبشكل غير مجزوء، وبلا إملاءات على الأسد، ليس الضوء الأخضر الأميركي المتمثل في إهمال الملف السوري لصالح دول أخرى أصبحت فاعلة فيه، ولا حتى تسابق شقيقاتها العواصم الخليجية إلى دمشق، بل إن الأمر المحض في عودة العلاقات بين الرياض ودمشق، هو استعادة نظام الأسد إلى الحظيرة العربية، وإلغاء تبعيّته للمدّ الإيراني (الفارسي)، الذي يراه الخليجيون خطراً داهماً، أو ثوراً هائجاً قد يقتحم أسوارهم؛ ومن الأمور المهمة في إعادة العلاقات مع الأسد، هي إرضاء روسيا، الحليفة الشرسة لنظام الأسد، والتي تنسق بدورها مع "إسرائيل" التي تلتقي مع الخليجيين في الهدف ذاته، وهو تحجيم الوجود الإيراني في سوريا، وعدم السماح بخلق تنظيمات تشبه حزب الله في سوريا، مع ضرب العمود الفقري للتنظيمات المتشددة والميليشيات، المتوزعة بين العراق وسوريا واليمن ولبنان، مخافة من تهديداتها المستقبلية.
أما الروس، فهم ينساقون كما نشاهد إلى مناجزة الأميركان، بكسب أطراف عربية وإقليمية، على حساب أطراف أخرى كانت حليفة لواشنطن، لذا، واشنطن تراقب، وتعي ذلك، وتمهد حالياً لحلف قوي دولي في المحيطين الهادي والهندي، لإضعاف الصين، وروسيا، وإلهاء المعسكر الشرقي بمشكلات داخلية وخارجية؛ إذ إنها سمحت لروسيا بإنقاذ نظام الأسد سياسياً وعسكرياً، ولإيران بالتغلغل داخل سوريا منذ بداية الثورة.. وهذي السياسة، لم تكن من أجل التراخي، بل لإنهاك الأطراف، وإن واشنطن على المدى البعيد في الملف السوري، لعبت دور إدارة الأزمات، وتوجيهها، وعدم التدخّل فيها إلا بأوقات مناسبة!
وكما قال هنري كيسنجر "لا حرب من دون مصر، ولا سلام بلا سوريا في الشرق الأوسط". وهنا، إن صحّ التعبير، والمقصد في الشأن السوري، يعود إلى موقع سوريا الجيوسياسي، ومدى تأثير الجغرافيا السورية على السياسات والقرارات في المنطقة، وخاصةً وجود ما تسمى "إسرائيل" إلى غربها، وتركيا من الشمال، حيث تعدّ الأخيرة بوابةً تطل على أوروبا، والتي تعمل أميركا مع بعض دول أوروبا لإخضاعها، والتأثير في سياساتها واقتصادها. وعلى ما ذكر أعلاه، فإن مقصد كيسنجر لم يكن هو أن رؤساء سوريا هم من يصنعون السلام، فنحن عهدنا نظامي الأسد والابن الوريث، طوال خمسة عقود، لم نرَ منهما سوى القتل والقمع والتدمير، ولم يكن السلام عنواناً لديهما، وهذا أن سوريا رهينة قرارات دولية وأنظمة شمولية استبدادية، وعلى الشعب السوري أجمع، أن يوحّد صفوفه كي يكون باستطاعتنا اقتلاع نظام الأسد، والتحرر من التدخلات والإملاءات الخارجية، والانعتاق من ظاهرة الرئيس الواحد للأبد.