سجل لاعب منتخب سويسرا "بريل إيمبولو" هدفاً في مرمى بلده الأصلي الكاميرون، لكنه اختار عدم الاحتفال ورفع يديه، وبدا أنه يعتذر، فسجل بحركته تلك موقفاً حقيقياً في حق بلده الأصلي، مذكراً العالم أنه ما زال ينتمي إليها على الرغم من هجرته وحصوله على جنسية بلده الجديد.
الفكرة نفسها انطبقت على كثير من محبي الكرة المولودين لأسر عربية سواء كانوا يقطنون في بلادهم أو حكم عليهم العالم بمنفىً قسري، فبين الشرق والغرب والمحيط والخليج، كرة واحدة كانت كافية لتمنحنا مجدداً بذرة أمل وتشرح حقيقة مشاعر شعوب العالم العربي الذي فقد الأمل منذ زمن لكنه ما زال يمتلك الرغبة ويشحذ القدرة كي يمنح نفسه مصيراً مختلفاً عما يعيشه اليوم.
الفرق العربية على الرغم من خروج أغلبها من الدور الأول،فإنها خالفت التوقعات وقدمت أداء مبهراً ضمن لها الفوز على فرق حصدت اللقب لأكثر من دورة
أربعة منتخبات عربية كانت سفيرة العالم الثالث ـــــ مثلما يحلو للعالم الأول تسميتنا ـــــــ في سباق الكرة العالمي، ولأننا كعرب واثقون تماماً من وحدة مصيرنا وسوداويته، لم يمنعنا التوقع بالفشل من تشجيع تلك الفرق والتجمهر بانتظار هدف تحققه قدم أحد اللاعبين وتفعل ما عجزنا نحن عن فعله على مدى عقود.
النتيجة لم تكن مثلما توقعها العالم تماماً فالفرق العربية على الرغم من خروج أغلبها من الدور الأول، فإنها خالفت التوقعات وقدمت أداء مبهراً ضمن لها الفوز على فرق حصدت اللقب لأكثر من دورة ووقّعت بمهارتها في مباريات تاريخية، فكان للأمل أن يصبح أضعاف أضعافه بأن المستحيلات أمور غير ثابتة وأن الظرف المتغير قادر على تغيير المصائر.
لا شك أن بعض الأحداث الكاشفة تضع الإنسان في مواجهة نفسه وتجبره على إبصار ما لا يريد الاعتراف به، فالفوز الذي حققته تلك الفرق على الفرق الكبيرة وضعنا أمام مرآة كشفت لنا أننا نحيا في بلاد نتسول فيها الفرح ونحلم بصناعة ظفر واحد يُنسينا هول الفاجعة التي ألمّت بنا كشعوب عربية، لا من ناحية الأمن والغذاء والتعليم والصحة فحسب بل لقد عرّت في الحقيقة ما هو أشد وأعمق.
أثبتت الشاشة الصغيرة التي تحمل خليطاً من أجناس وأعراق وجنسيات الأرض قاطبة، ضيق حجم عالمنا العربي المنتشر في أصقاع الكوكب، وبينت مدى حاجتنا للبحث عن أمل نتعلق به بعد خليط من الهزائم والانكسارات ورثناها من أجيال سبقتنا أو عاصرناها في العقد الفائت.
لقد فقدنا الأمل والقدرة خلال عقود، لم يعد بمقدورنا التخلي عن الجري والسعي وراء قوت يومنا كي نعمل على تحقيق مكاسب فكرية وتحصيل تغيير سياسي أو النضال من أجل تحقيق حقوق الإنسان، أصبحت الأحلام والأمنيات أضيق من ذلك، مأكل ومشرب وملبس ودفء، لقد بتنا شعوباً منهكة لا طاقة لها على الحلم، باغتتها الشيخوخة وهي في عز الصبا وأوج العطاء وبات العجز هو الاسم المرادف والمناسب لها.
من ناحية أخرى لا يمكن إنكار ما أوضحته تلك اللعبة، ذلك أننا ما زلنا نشعر بروابط متوارثة ومستمرة بوحدة المصير والانتماء، روابط لم يتمكن الاستعمار أو الاستبداد أو حدود سايكس بيكو وما تلاها من اقتطاع أراض وتهجير وإبادة من إزالتها أو محوها والقفز فوقها.
على اختلاف جنسياتنا كنا جميعاً نشجع الفرق العربية التي تلعب، مهما كان الخصم قوياً أو مهما كنا مشجعين مخلصين له فيما مضى، فالفريق الذي يتكلم لغتنا وتربطه بأجدادنا علاقات قديمة كان هو الأولى بتصفيقنا وتشجيعنا وكان يكفي أن يضع أي فريق منهم هدفه حتى تشعر بقية الفرق أننا نستحق ذلك الفرح جميعاً.
فرّقنا الاستعمار والاستبداد والحدود، وجمعتنا كرة تتقاذفها أقدام اللاعبين وتصنع معها أحلاماً تأخذها عالياً، قبل أن نعود لنواجه واقعنا المحتوم، لكنه لا يلغي أننا كنا على قلب واحد مع كل صعود وهبوط
تعالوا لنتذكر معا متى كانت آخر مرة شعرنا فيها بأننا شعب واحد على اختلاف دولنا، لقد سلبونا هذا الشعور واستأصلوا معه الانتماء في دوامة من العمل المستمر للحاق بركب تضخم العملة وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية والبحث عن منفى جديد أو الموت صقيعاً وراء قماش خيمة، لا يغني ولا يسمن من جوع ولا يمنح دفئاً ويحرمنا رفاهية الشعور بالحنين لبلادنا ولو مثقال ذرة.
فرقنا الاستعمار والاستبداد والحدود، وجمعتنا كرة تتقاذفها أقدام اللاعبين وتصنع معها أحلاماً تأخذها عالياً، قبل أن نعود لنواجه واقعنا المحتوم، لكنه لا يلغي أننا كنا على قلب واحد مع كل صعود وهبوط.
لا نقصد هنا ما لقنونا إياه في كتب التربية القومية عن الأمة العربية الواحدة، ولا نأبه بشعارات الحكومات التي كانوا يرددونها ولا يفعلونها، ولا يعنينا سوط الجلاد ورهبة الاستبداد، فالألم الذي شعر به بو عزيزي قبل عقد من الزمن استنفر له العالم العربي من مشرقه إلى مغربه.
ربما كانت هذه هي آخر مرة كنا فيها على الإيقاع نفسه، كان ذلك في عام 2011 في عام الثورات الميمونة التي مُنينا بعدها بكم هزائم لا يحتمل، من تهجير وتدهور اقتصادي وجائحة صحية فأصبح كل منا بعدها مشغولاً بالنضال للبقاء على قيد الحياة، ونسينا أهمية القضايا الكبيرة أو رفاهية النضال في سبيلها.
لن يذكر التاريخ أول نسخة من كأس العالم تُقام في الوطن العربي فحسب، لكنه سيسجل أنه الحدث الذي أوضح للعرب أنفسهم وللعالم أجمع أن الشعور القومي ظهر إلى المقدمة بعد أن كان مغيباً ومنسياً، وأن ذلك الحدث وضعنا في مواجهة حقيقة كم كنا مهزومين ومنكوبين إلى حدّ النخاع حتى باتت أحلامنا تتلخص بكرة وأصبح الفوز لدينا بمثابة فتح عظيم.