أياً تكن ردود الفعل حيال امتلاك أنقرة لمنظومة إس 400، فإن الملف السوري، سوف يشكل محور الاحتكاك المباشر في علاقات تركيا مع كل من الولايات المتحدة وروسيا. ومن المحتمل أن يشهد الوضع في سوريا، انعكاساً مباشراً لتجاذبات أكثر حدّة على الأرض، تتجلى في مواصلة العمليات العسكرية الروسية، في إدلب وريف حماة، في ظل تأييد أمريكي غير معلن، وتغاضٍ واضح عما يتم اقترافه من جرائم بحق المدنيين هناك، يشجع موسكو على مزيد من خرق الالتزامات المتفق عليها مع أنقرة، وتحول دون توصل الطرفين إلى أي تفاهمات من شأنها العودة إلى خفض التصعيد، على الرغم من عدم تحقيق أي منجز حقيقي في معارك الكرّ والفرّ.
وفي سياق إجراءاتها العقابية / الانتقامية، سوف يستمر البنتاغون في تطوير دعمه لقوات قسد، من حيث تعزيز البنية الإدارية ومحاولة توسيع المشاركة السياسية، الذي تقوم بها هذه الآونة في المناطق التي تخضع لسيطرة الولايات المتحدة / قسد في الشمال السوري، ويُبقي أي احتمالات بالتوصل إلى تسوية بشأن الملفات العالقة، أمراً مؤجلاً، كعهد الإدارات الأمريكية المتعاقبة، في محاولة دائبة لفرض سياسات أحادية، خاصة في علاقتها مع تركيا، مع احتمال التصعيد في هذا الملف من قبل الطرفين.
وليس من باب المصادفة، أن يبدأ وصول معدات بطاريات إس 400 الروسية إلى تركيا، عشية ذكرى محاولة انقلاب 15 تموز، وكأنها بذلك تحيلنا إلى البعد الأعمق من المشكلات المعقدة بين أنقرة وواشنطن، في ضوء استمرار خلافاتهما، حول قضايا المنطقة الشرق أوسطية، والصراعات المستوطنة فيها، دون التوصل إلى حلّ نتيجة لسياسات الولايات المتحدة، وأولوياتها المتمثلة بمحاربة الإرهاب، دون النظر إلى مصالح الأطراف الإقليمية، بما فيها شركاء واشنطن، مثال تركيا.
وليس من باب المصادفة، أن يبدأ وصول معدات بطاريات إس 400 الروسية إلى تركيا، عشية ذكرى محاولة انقلاب 15 تموز، وكأنها بذلك تحيلنا إلى البعد الأعمق من المشكلات المعقدة بين أنقرة وواشنطن
وقد شهدت الفترة الماضية، تشدداً أميركياً حيال إبرام صفقة بطاريات الصواريخ الروسية، ولوّحت واشنطن بفرض عقوبات حال تمريرها، وبالفعل سنّ مجلس الشيوخ تشريعاً يمنع بيع القاذفة إف 35، في حال تشغيل تركيا للمنظومة الصاروخية الروسية. ومع ذلك، فإن بدء تسلّم أنقرة الدفعة الأولى منها الجمعة الماضية، أدى إلى ما يشبه لحظة التفكير الصامت، دون أن تكون هناك تصريحات "عدائية" حادة، اعتادت إدارة ترامب على إصدارها حيال ملفات عديدة، تتصل بالمنطقة. وذهب السيناتور الجمهوري ليندسون غراهام، إلى اعتبار أي خلاف مباشر مع انقرة بشأن صواريخ إس 400، سيكون ضاراً بالعلاقات والمصالح المشتركة.
تصريح غراهام، الذي بات قريباً جدا من ترامب، يمكن النظر إليه كمؤشر هام على تريّث الإدارة الأمريكية، في اتخاذ إجراءات سريعة حيال قضية باتت محققة على الأرض، وأنها قد تذهب إلى الاحتواء بدلاً من التصعيد، ولكن مع المضي في فرض عقوبات محدودة على تركيا، بهدف الضغط عليها، وحثها على عدم تشغيل المنظومة، في الفترة المتبقية من رئاسة ترامب، على المدى المنظور، وينتظر أن تشمل العقوبات ثلاثة جوانب أساسية، تشتمل على وقف انخراط أنقرة في مشروع إف 35، وعلى حظر توريد قطع الغيار للصناعات العسكرية، وفرض عقوبات إقتصادية من شأنها الإضرار بالبنوك والمعاملات المالية بين البلدين.
لكن ردّ الفعل الأوليّ صدر عن حلف الناتو، الذي يمثل إطار الشراكة الأمنية الاستراتيجية الأوسع، الذي تنضوي تركيا، وأوروبا والولايات المتحدة في إطاره، ولم يتعد الإعتراض الجانب التقني الذي اعتبره الناتو مهدداً للمنظومة الأمنية الأطلسية، وضارّاً بها، ومتعارضاً بالطبع مع روح الناتو واتفاقاته.
ثمة منعطفان هامان، يتوجب الإشارة إليهما، في محاولتنا استقراء انعكاسات هذا الحدث في المنطقة، أولاهما موقف الولايات المتحدة، وإدارة ترامب، من حلف الأطلسي، فعلاوة عن أن واشنطن لا يمكن أن ترى أهمية الحلف، إلاّ من خلال المصلحة الأمريكية المباشرة، من جهة أولى، وفي قيادتها للحلف، أي يكون تحت مظلتها، من جهة ثانية، وفي ذلك تحجيم لدور أعضاء الحلف، ومصالحهم، بما في ذلك " الأَمنيّة الأوروبية". يضاف إلى ذلك، موقف ترامب الذي لا يرى أهمية في استمرار التعامل مع الناتو، وفي فعّالية أداء مهامه، خاصة بعد تغير استراتيجياته، وتراجع دوره العسكري، لصالح الأهداف الأمنية.
كانت المواقف الأمريكية غير المشجعة، تجاه أنقرة وانشغالاتها، سبباً رئيساً في التوجه نحو روسيا، لتحقيق توازن حيال ما يمكن تسميته في الخلل العميق الذي انتاب علاقات الدولتين الشريكتين طوال مايزيد على نصف قرن
المنعطف الثاني، ما يتصل بتركيا. فقد كانت المواقف الأمريكية غير المشجعة، تجاه أنقرة وانشغالاتها، سبباً رئيساً في التوجه نحو روسيا، لتحقيق توازن حيال ما يمكن تسميته في الخلل العميق الذي انتاب علاقات الدولتين الشريكتين طوال مايزيد على نصف قرن، في سياق تحالف استراتيجي ثنائي، على نحو خاص، إضافة إلى الناتو، والذي تعتبر فيه تركيا الحلقة الذهبية، لأسباب عديدة، انتفى معظمها، مع توقف الحرب الباردة، والانتقال السياسي في تركيا مع صعود أربكان وصولاً إلى أردوغان، بما يمثله ذلك من تحولات هامة.
وقد شكل إحجام الناتو عن دعم الموقف التركي، إثر إسقاط الطائرة الروسية، دافعاً قوياً ومباشراً استغلته تركيا، في بدء بناء شراكة استراتيجية مع موسكو، فرض الملف السوري حضوره المؤثر فيها، سياسياً وعسكرياً، وارتبط ذلك بالسياسة الأمريكية المتعارضة مع أولويات أنقرة، منذ إدارة أوباما، ورفض طلبها بالحصول على منظومة باتريوت.
وفي الواقع تفتح التطورات الراهنة، ملف العلاقات التركية - الأمريكية على مصراعيه، في ضوء عدم تجاوب واشنطن مع مقترحات أنقرة للتعاون المشترك في المنطقة. ويمكننا أن نضيف أن عدم الأخذ بمخاوف الشريك التركي، تترتب عنه خلافات عميقة في الملف السوري، بشأن "المنطقة الآمنة"، وفي الذهاب نحو التسوية السياسية، وفي دعم واشنطن وحمايتها لميليشيات صالح مسلم، المصنفة كتنظيم إرهابي، والحيلولة دون تعريضها لعمليات عسكرية تركية، تحدّ من أخطارها في الشمال السوري.
تشغيل منظومة إس 400، سوف يقود إلى مزيد من تعقيد الإشكاليات القائمة بين البلدين، وفي اعتقادنا أن العقوبات الامريكية، لن ترغم أنقرة على التراجع، عن المضي في تطوير منظوماتها الدفاعية، والأمنية، وبالتالي تعزيز مكانتها السياسية والاقتصادية إقليمياً بصورة أوسع وأعمق
تشغيل منظومة إس 400، سوف يقود إلى مزيد من تعقيد الإشكاليات القائمة بين البلدين، وفي اعتقادنا أن العقوبات الامريكية، لن ترغم أنقرة على التراجع، عن المضي في تطوير منظوماتها الدفاعية، والأمنية، وبالتالي تعزيز مكانتها السياسية والاقتصادية إقليمياً بصورة أوسع وأعمق. وبالمقابل لا يمكن للولايات المتحدة، أن تتخذ إجراءات انتقامية تدفع تركيا للبحث عن حلفاء آخرين، وأسواق تصدير واستيراد جديدة، ومصادر تمويل بديلة.
وعلى صعيد الملف السوري، لن يتغير شيء على الأرض. سوف تحافظ جميع الأطراف على توازنات السيطرة القادئمة، وعلى تجنّب التصادم المباشر، على أي صعيد، ما يبقي الوضع المأساوي للسوريين على ماهو عليه: مزيد من التهجير والخراب.. دون وقف لمجازر الأسد – بوتين.
الإشكالية الأبعد تكمن في نزاعات النفوذ بين الولايات المتحدة وروسيا، فهل تقلب واشنطن الطاولة على موسكو، وتجبرها على الالتزام بالتسوية السياسية في سوريا، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، ردّاً على إدخال سلاح روسي متطور إلى البيت الأطلسي؟!