عاش السوريون لسنوات، ما يمكن أن نسميه جائحة الخيبة والإحباط، لما آلت إليه تطورات الوضع في سوريا، إثر اندلاع الانتفاضة الثورية الشاملة (مارس/ آذار 2011) ضد الاستبداد الذي مثله النظام الأسدي الفاشي الذي يحكم سوريا، بالقوة منذ عام 1970 وحتى اليوم.
لكن الأمل استفاق مجدداً إثر انتفاضة السويداء، ومُضيّ الاحتجاجات هناك نحو غاية لم تكن في حسبان أحد من القوى الوطنية، وكذلك الأمر بالنسبة للنظام الأسدي، والقوى الإقليمية والدولية المساندة له، لتصل إلى نقطة الذروة في المطالبة برحيل الأسد بعد أيام فقط، من المقابلة التلفزيونية التي سخّف فيها الحراك الوطني، وكذلك سعي العرب للتطبيع معه، على حدّ سواء، مؤكداً نهجه الدموي في التصدي لكل ما من شأنه أن يقود إلى التغيير في سوريا، حتى بعد اثني عشر عاماً من الثورة، ومن التدمير وتهجير الملايين، والإخفاء القسري للآلاف الشباب السوري.
مثلت انتفاضة جبل العرب وسهل حوران، إشراقة جديدة في التاريخ السوري المعاصر، بكل تجلياتها، تفاصيلها ومعطياتها، وفي مفاجأتها التي أربكت النظام الأسدي، وألجمته عن اتخاذ رد فعل عسكري وأمني مباشر
من دون أدنى شك، لا يمكن النظر إلى انتفاضة جبل العرب، على أنها ردة فعل مباشرة على إجراءات رفع الدعم، بما يعني رفع سوية الفقر والجوع. كما أنها ليست رداً على ما ورد في حديث الأسد التلفزيوني. وإن كانت تلك، قد تبدو أسباباً مباشرة يؤخذ بها. لكن الانتفاضة، جاءت بناء على تراكم من المواقف والاحتجاجات العديدة طوال عقد مضى، لم تكن فيه السويداء بعيدة فيه عن الثورة السورية، بل هي جزء من الحراك الوطني المطالب بالتغيير، وبالحرية والديمقراطية. كما أنها لم تكن - وهذا مهم جداً – جزءاً من المنظومة الأسدية، أو قريبة منها، بأي شكل من الأشكال. وكان لهم أن يتخذوا قرارهم بعدم الانخراط في تشكيل مسلح، تأسيساً على الرفض المطلق لاستخدام السلاح، في أي نزاع، أو قضية، خاصة إذا كانت تتصل بالمسألة الوطنية، وتلك كانت خصوصية ثقافية، تتصل برؤية المجتمع تجاه الأحداث، وتاريخ المنطقة الاجتماعي والسياسي، وعلاقتها بأحداث البلاد طوال ثلاثة عقود مريرة ودامية من حكم الأسد الأب.
مثلت انتفاضة جبل العرب وسهل حوران، إشراقة جديدة في التاريخ السوري المعاصر، بكل تجلياتها، تفاصيلها ومعطياتها، وفي مفاجأتها التي أربكت النظام الأسدي، وألجمته عن اتخاذ رد فعل عسكري وأمني مباشر، اعتاد – بوصفه نظاماً مجرماً –القيامَ به من دون رقيب دولي أو حسيب. وهي، لن تلبث أن تسهم في خلخلة ما تبقى من مفاصل النظام المتضعضع! ويُحسب لهذه الانتفاضة وضوح مطالبها وقوتها، وتحريضها على إحياء انتفاضة السوريين، كشعب واحد، في مناطق مختلفة من الجغرافيا السورية كما في جمعتي انتفاضة السويداء.
وإن جاءت الاستجابة خجولة في بعض الأماكن، فإن ذلك يعود إلى الظروف الأمنية التي تحكم كل منطقة، ولن تلبث أن تتوسع، مع استمرار انتفاضة جبل العرب وسهل حوران، والثبات على المطالب السياسية، برحيل الأسد، وإسقاط النظام.
غير أن مستجدات الوضع في منطقة الفرات، حيث اندلعت انتفاضة أهالي ريف دير الزور على سلطة قسد، فإن ذلك من شأنه أن يعزز الانتفاضة السورية، ويسهم في توسعها إلى مناطق أخرى، مثل ريف دمشق، والقنيطرة، ومنطقة الجزيرة السورية بكاملها، والتي ترزح تحت حكم سلطات الأمر الواقع: قوات سوريا الديمقراطية، والتي جمعت بكفاءة منقطعة النظير بين سياسات النظام الأسدي القمعية والقهرية، وأسلوب داعش الإرهابي، لتمثل بذلك نموذجاً فريداً في ممارسة القمع والقهر والاستبداد، والعنصرية والتغيير الديمغرافي، في منطقة الجزيرة الفراتية، خاصة أن قيادات قسد أعلنت بكل وضوح عدة مرات، عن علاقتها التي لم تنقطع مع النظام الأسدي، خلال السنوات الماضية.
وفي الحقيقة، فإن تصريح مظلوم عبدي الأخير، بأن قسد هي جزء من منظومة جيش النظام السوري، ينطوي على إشارة واضحة ليس إلى المأزق الذي تقع فيه اليوم في منطقة سيطرتها واحتلالها، فحسب، وإنما تحمل دعوة مباشرة للتعاون مع النظام، لمواجهة التحرك الشعبي في كلا المنطقتين: جنوبيّ سوريا وشماليّها، وإلى استعدادها للتنسيق العسكري والأمني الواسع مع دمشق لتطويق الانتفاضات الشعبية.
سلمية الانتفاضة في جبل العرب وسهل حوران اليوم، تمثل دافعاً جوهرياً لاستمرارها، ولحمايتها من أي تدخل عسكري أمني مباشر
ليس لدى النظام الأسدي - المنشغل مع حلفائه، بالبحث عن حلّ لتطويق الانتفاضة في الجنوب، ومنع تمددها نحو دمشق في الحدّ الأدنى - ما يقدمه لقسد. وأي تعاون محتمل سيجعل الأخيرة في موضع اختبار قاسٍ، نتيجة خضوعها للتعليمات الأميركية، خاصة أنها تفتقد إلى أي حاضنة شعبية حقيقية في الجزيرة السورية، في ظل الولاءات المؤقتة المتبدلة تاريخياً لعشائر المنطقة، كما أنها غير مهيأة للانخراط في أي مواجهات مسلحة، إذ إن قسد لم تخض، ولو معركة واحدة مباشرة مع داعش، في أثناء الحملة العسكرية للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش، الذي تمّ التفاوض معه على الانسحاب من المنطقة الفراتية بأسرها.
سلمية الانتفاضة في جبل العرب وسهل حوران اليوم، تمثل دافعاً جوهرياً لاستمرارها، ولحمايتها من أي تدخل عسكري أمني مباشر. وهي معضلة كبيرة لنظام الأسد. أما مشكلة قسد فإنها تنبع من إشكالية ممارساتها العنصرية، وإقصاء العرب، أصحاب المنطقة وسكانها الأصليين، عن المشاركة الحقيقية في صنع القرار، واستخدام المقاتلين العرب المنضوين في إطارها، بما يخدم سياسات قنديل. واليوم تكشف انتفاضة العشائر عن هشاشة تنظيم قسد العسكري، الذي لم يستطع الصمود أمام بضعة مقاتلين. كما تعزز الحاجة إلى دور سياسي فاعل للقوى العربية، في المنطقة، طالما عطلت واشنطن طريق الوصول إليه.
استمرار انتفاضة السوريين، في الجنوب والشمال، مصدر أمل، لتجديد روح المطالبة بالتغيير الجذري لنظام الاستبداد الأسدي، وكل الميليشيات التي تدور في فلكه، أو القوى الداعمة له. وهذا الحراك يتطلب التفافاً ودعماً وطنياً شاملاً، من مجتمع الثورة، بصورة أساسية، كي تتحقق أهدافه.