كان جاستن ترودو يتحدث عن التوقعات الاقتصادية للشعب الكندي عندما قال: "إنه زمن القلق الكبير"، ثم أخذ يتحدث عن ديمومة مشروعه الليبرالي أمام حشد من الشخصيات التقدمية القادمة من مختلف أنحاء العالم والتي احتشدت في مونتريال خلال الشهر الماضي، وأضاف: "لقد لاحظ الناس ارتفاع أقساط الرهن العقاري أكثر مما لاحظوا المدخرات التي خصصت لرعاية أطفالهم" ولعله يلمح من خلال ما قاله إلى عدم تقدير الناس لما فعله من أجلهم.
مرحلة القلق الكبير
بيد أن تشخيص القلق يناسب حكومته أيضاً، فقد خرج ترودو وحكومته من الحالة البطولية ليصلوا إلى حقبة التعاسة خلال فترة استمرت لتسع سنوات بقي فيها هذا الرجل في منصبه، فأصبح معظم الشعب الكندي يكرهه اليوم، إذ تراجعت نسبة من قرروا التصويت لصالحه لما دون الربع، ومع اقتراب الانتخابات العامة التي لم يعد يفصلنا عنها سوى فترة تقل عن سنة، أصبح أعضاء الحزب الليبرالي يخشون من عدم وجود أي خطة لزيادة تلك النسبة، خاصة بعد خسارتهم في الانتخابات الفرعية لمرتين متتاليتين، ناهيك عن خسارتهم لدعم وتأييد الحزب الذي يشاركهم في الحكم ألا وهو الحزب الديمقراطي الجديد. وأثناء نشر هذه السطور، عمم خطاب بين النواب البرلمانيين من الحزب الليبرالي يطالب ترودو بالتنحي، وهذا ما يثير قلقاً كبيراً بالفعل.
تحول ترودو إلى منارة للأخلاق والآداب إثر وصوله إلى السلطة في عام 2015، وذلك عندما رحب في عطلة عيد الميلاد باللاجئين القادمين من سوريا التي مزقتها الحرب. ثم شرعن الماريوانا، فكانت تلك مكافأة للعدد القياسي من الشباب الذين صوتوا له، ووقف ضد الرئيس الأميركي العدواني دونالد ترامب وذلك لينقذ اتفاقية التجارة في أميركا الشمالية التي تعتبر أساس ازدهار كندا. وأشاد كثيرون بما تنفقه حكومته سنوياً على الأسر والأهالي إذ تدفع ما يصل إلى 7787 دولاراً كندياً (أي ما يعادل 5660 دولاراً أميركياً) عن كل طفل لم يبلغ السادسة من العمر، وهذا ما انتشل 435 ألف طفل من براثن الفقر. وبعد أن تعهد بدفع معونات من أجل رعاية الأطفال وذلك بهدف زيادة عدد النساء العاملات، جددت فئة الشباب والطبقة العاملة تفويضها له عبر انتخابها لشخصه من جديد في عامي 2019 و2021.
ولكن بعد مرور ثلاث سنوات على ذلك انقلبت تلك الفئات على ترودو، بعد أن أصبحت ميالة لدعم المعارضة المتمثلة بحزب المحافظين الذي يتزعمه بيير بويليفر، إذن ما الذي حدث؟
السبب الأول للتراجع: ارتفاع أسعار السكن
تعتبر مسألة ارتفاع تكاليف السكن محورية في هذا السياق، إذ إن كلفة امتلاك بيت في كندا قد زادت بنسبة 66% منذ أن تولى ترودو السلطة في عام 2015، كما ارتفعت الأسعار بصورة أسرع خلال هذا القرن مقارنة بما حدث في أي دولة كبيرة أخرى من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ويستثنى من ذلك أستراليا. ويعتبر نقص العرض مشكلة بالنسبة لكثير من الدول، بيد أن هذه المشكلة تزداد حدة في كندا، إذ في عام 2022، وفرت أي دولة متوسطة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 468 مسكناً لكل ألف قاطن، في حين لم يكن لدى كندا سوى 426 مسكناً، ولم يتغير هذا العدد إلا بنسبة ضئيلة خلال عقد من الزمان، وهذا ما دفع الخبير الاقتصادي مايك موفات وهو شخص متخصص بمجال الإسكان إلى القول بإنه لابد من فرض "مجهود حربي" لمضاعفة نسبة البناء الحالية ثلاثة أضعاف، ولتجهيز ما يصل إلى 5.8 ملايين بيت خلال السنوات العشر القادمة. ولكن من سوء حظ كندا، هبطت عمليات البدء بتشييد المساكن فيها إلى معدل سنوي بلغ 217 ألفاً.
السبب الثاني: زيادة أعداد المهاجرين
تفاقمت الأزمة بسبب الطلب الكبير على السكن من الأعداد الغفيرة للمهاجرين الذين أتوا إلى البلاد خلال العقد الذي تولى فيه ترودو زمام الحكم، كما قفزت أعداد العمال الأجانب الذين يعملون بشكل مؤقت من 109 آلاف في عام 2018 إلى ما دون 240 ألفاً في عام 2023. أما أعداد المقيمين بشكل غير دائم، وبينهم عمال أجانب يعملون بشكل مؤقت وطلاب وطالبو لجوء، فقد زادت عن الضعف فارتفعت من 1.3 مليون في عام 2021 إلى أكثر من ثلاثة ملايين في الأول من تموز الماضي وذلك بحسب مصلحة الإحصاء الكندية، أي أن هؤلاء أصبحوا يمثلون 7.3% من مجمل سكان كندا البالغ عددهم 41 مليوناً.
السبب الثالث: فوضى التأشيرات الدراسية
وصل الضغط أيضاً إلى منظومتي التعليم والرعاية الصحية، إذ أصبحت الجامعات تعج بالطلاب الأجانب، الذين أتوا بسبب إغراءات قدمها لهم وسطاء أجانب معدومو الضمير وذلك عندما عرضوا عليهم الحصول على شهادات جامعية "وهمية" بحسب ما وصفه وزير الهجرة في حكومة ترودو، مارك ميللر، وعليه منحت كندا خلال العام الماضي 560 ألف تأشيرة دراسية، ولذلك يسعى الوزير ميللر إلى خفض هذا العدد بحيث يصل إلى 364 ألفاً، وهذا ما دفعه للتصريح في مطلع هذا العام بالقول: "شاب الأمر شيئاً من الفوضى، ولهذا حان الوقت للسيطرة على الأمور". ويعاني بعض المعلمين في المرحلة الابتدائية كثيراً من هذا الوضع، إذ ظهرت لديهم صعوبات في التعامل مع أطفال الوافدين الجدد الذين لا يتحدثون أياً من اللغتين الرسميتين لكندا، أي الإنكليزية والفرنسية.
السبب الرابع: بطء النمو الإنتاجي
زادت ضغوط تكاليف الإسكان المرتفعة بسبب الظروف المتواضعة للوضع الاقتصادي، إذ تعاني كندا من بطء في نموها الإنتاجي، وهذا ما ألقى بظلاله على الأجور. أما الاستثمارات فكانت قوية في حقول النفط والغاز، وفي مجال الصناعات الاستخراجية عموماً، غير أن مجالات الاقتصاد الأخرى أثقلت كاهلها. لذا فإن جميع الاستثمارات في المجال التقني والبحث والتطوير والتعليم أصبحت أقل في كندا مقاربة بما هي عليه في أي دولة أخرى من دول مجموعة السبع الغنية.
السبب الخامس: العلاقات الاقتصادية مع أميركا
كما أن العلاقات الاقتصادية لكندا مع الولايات المتحدة خلقت مشكلات منذ نهاية الجائحة، وذلك لأن الإنفاق الأميركي ركز بشكل كبير على الخدمات الداخلية بعد انتهاء حالة الإغلاق، وهذا ما جعل الصناعيين في كندا يعيشون مأزقاً حقيقياً بعدما كانت بضائعهم تنفد من الأسواق. ولذلك أصبح قطاع الخدمات يتحمل الجزء الأكبر من تشغيل الاقتصاد الكندي ودعمه، وهذا القطاع يعتمد على الطلب من جانب الشعب الكندي وحكومته.
السبب السادس: ارتفاع سعر الفائدة
لكن الطلب تراجع بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، ومع ذلك أعلن حاكم المصرف المركزي الكندي، تيف ماكليم، بأن السياسة المالية الكندية حظيت بجاذبية أكبر مقارنة بما هي عليه في الولايات المتحدة. ففي الولايات المتحدة جرى تثبيت معظم أقساط الرهن العقاري لمدة ثلاثين عاماً، مقارنة بمدة خمس سنوات في كندا. ولذلك وجدت نسبة من أعلى الكنديين مقارنة بنسبة الأميركيين بأنها صارت تدفع زيادة على أقساط الرهن العقاري، على الرغم من أن الشعب الكندي يتحمل ديوناً أكبر على الدخل مقارنة بأي دولة أخرى من مجموعة السبع. والآن، أصبح الكنديون ينفقون ما يبلغ متوسطه 15% من الدخل المتوفر بين أيديهم لسد الديون، أي بزيادة تعادل 1.5% نقطة منذ عام 2021، مقارنة بنسبة 11% التي يدفعها الأميركيون. وبخلاف الوضع مع العم سام، لم تحاول الحكومة الكندية تخفيف قوة الضربة عبر الحد من القيود المفروضة على الإنفاق، فعانت من عجز في الميزانية بلغ 1.1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2023، وذلك مقارنة بالعجز الذي وصل إلى 6.3% في الولايات المتحدة.
السبب السابع: ضريبة الكربون
مثل التغير المناخي أوضح فرصة أمام ترودو ليمزج بين قيادته الأخلاقية والبراغماتية، لكنه تجاهل استطلاعات الرأي التي أظهرت بأن الكنديين في الوقت الذي يقلقهم أمر أزمة المناخ نجدهم مترددين وهم يدفعون ضرائب تعادل قيمتها رسم الاشتراك على نتفليكس حتى يحاربوا من خلالها أزمة المناخ. فمن خلال ضريبة الكربون التي فرضها ترودو في عام 2019، فرضت رسوم على انبعاثات غاز الدفيئة، والتي أصبحت تعادل اليوم 50 دولاراً كندياً للطن الواحد، ومن المقرر أن ترتفع بنحو 15 دولاراً كندياً بالسنة لتصل إلى 170 دولاراً كندياً للطن الواحد في عام 2030.
وخلال الأسبوع الماضي أعلنت هيئة مراقبة الميزانية التابعة للبرلمان الكندي بأن أغلب الأسر عانت من وضع أسوأ عند احتساب التكاليف غير المباشرة لهذه الضريبة، ولذلك فإن فشل ترودو في إيجاد سبيل لتعويض الفئات التي تضررت نتيجة لفرض هذه الضريبة جعله هو والضريبة عرضة لانتقادات بويليفر الذي رأى بأن الضريبة ستؤدي إلى حدوث شتاء نووي، وستتسبب بظهور حالة جوع وسوء تغذية بين الناس، وستجعل الفقراء والعجائز يتجمدون من البرد، ولهذا السبب لم يعد هنالك أي تأييد أو دعم لضريبة الكربون.
السبب الثامن: تراجع الإنفاق على الدفاع والسياسة الخارجية
لم يتحسن موقف ترودو بسبب تراجع نفوذ حكومته الليبرالية في الشؤون الدولية، إذ في المرة الأخيرة التي حاولت فيها تلك الحكومة أن تفوز بمقعد في مجلس الأمن عام 2020، سبقتها كل من النرويج وأيرلندا في تحقيق ذلك. كما أنها أنفقت 1.3% فقط من الناتج القومي الإجمالي على الدفاع، بتراجع كبير عن نسبة 2% التي يجب أن تنفقها أي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي، وعن الوتيرة المحددة لإعادة تسليح الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف كونها باتت في مواجهة أمام روسيا التي تتبنى سياسة توسعية. بيد أن ترودو تعهد بأن تحقق كندا نسبة 2% بحلول عام 2032. وفي هذه الأثناء، بقيت العلاقات الكندية مع أكثر دولتين سكاناً في آسيا، أي الصين والهند، مجمدة، إذ في 14 تشرين الأول الجاري، طردت كل من الهند وكندا أعلى مبعوث لكل منهما في الدولة الأخرى، وذلك في آخر تحرك في خضم الخلاف المتواصل بين الدولتين بخصوص جريمة قتل شخصية انفصالية من السيخ في كولومبيا البريطانية خلال العام الماضي. وفي الشرق الأوسط، لم يعاود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاتصال بترودو الذي سبق أن اتصل به.
وبدلاً من أن يتكيف ترودو مع التحديات التي فرضتها سياساته أو أن يقوم بمواجهتها، فضل رئيس الوزراء الكندي التهجم على كل من ينتقده، فبدا عاجزاً في الوقت الذي تراجع الدعم والتأييد لحزبه بشكل كبير وسريع. ولقد ألمح بعض الليبراليين في السر إلى أن فشل زواجه في العام الماضي هو السبب في تشتيت انتباهه. وفي تعديل وزاري هدفه تغيير أهم الوزراء لديه قام به خلال العام الماضي، عمد ترودو إلى تغيير نصف الوزراء في حكومته، بيد أن رسالته الاقتصادية بقيت على حالها، وهي أنه هو وحكومته سيواصلون: "نشر الخير بين أبناء الشعب الكندي". ومنذ فترة قريبة جداً بدأ ترودو يعترف بأن ذلك ليس كافياً، فقال في مؤتمر مونتريال: "إن نشر الخير لا يكفي للتعامل مع القلق الموجود لدينا اليوم"، لكنه بقي يصف مشكلات ناخبيه بمصطلحات نفسية لا عملية.
الخروج المدوي
حدد بويليفر هوية هذا القلق الاقتصادي في مرحلة مبكرة، وهذا ما جعله يحظى بمصداقية بين قطاعات الناخبين الكنديين الذين أحسوا وكأنهم أصبحوا منبوذين. ولذلك اختصر هذا الرجل برنامجه الانتخابي بشعارات بسيطة مؤلفة من ثلاث كلمات، وأعلن بأن القانون الأول الذي سيصدره سيكون: "اجتثاث أصل الضريبة" والتخلص من ضريبة الكربون. لكنه لم يحدد بعد ما الذي ستفعله حكومته لمحاربة التغير المناخي، بيد أن استطلاعات الرأي أوضحت بأن الكنديين لم يعد يهمهم هذا الأمر كما كان يهمهم في السابق، بعد أن تخلى كثيرون عن ترودو والقضايا التي يدافع عنها.
المصدر: The Economist