يقال: إن الأزمات تستخرج أحسن ما في الناس، وكذلك تستخرج أسوأ ما عندهم!
لا شك أنّ ما حلّ بنا في سوريا وتركيا من بلاء الزلزال واحدة من أخطر الأزمات التي يشهدها العصر الحديث؛ رغم أننا ما زلنا منذ انطلاقة ثورة الكرامة نحطّم الأرقام القياسية في كثير من الأمور؛ فثورتنا أعظم ثورة يتيمة في وجه أسوأ نظام شهده العصر الحاضر، وعندنا أكبر مأساة من الموت واللجوء والتشرد، حتى شهدنا منذ أيام أخطر زلزال عرفته سوريا المعاصرة؛ فما الذي استخرجته هذه الأزمة من كمائن نفوسنا وكمائن نفوس غيرنا من الأصدقاء والأعداء؟
بعيداً عن دروس الوعظ السمجة التي تقرّع الناس الضحايا بحجة أن الزلزال عقوبة من الله على المخالفات؛ وإن كان في هذا جانبٌ من صواب، وبعيداً عما اقترفناه من حديث الاختلافات؛ لأننا مللنا الحديث عن عيوبنا ومشاكلنا، وصارت النفس تضطرب للإقياء من حديث السياسة وانبطاح المتصدّرين من السياسيين والعسكريين والمدنيين، وصار يخدش القلبَ صراعُ المنظمات والعاملين وما يسوّد صفحات التواصل من النشر – يعني بالمنشار – ببعضنا بعضاً.
كأننا لا نعرف الخيّرين إلا بعد أن يموتوا وينقطع الانتفاع بهم؛ فأين نحن من الأحياء؟ أليس فينا من أخيار؟ أليست عندنا محاسن؟
ولسنا ممن يدفن رأسه في الرمال؛ فتظهر عورته ويراها كل الخلق، وهو ينكرها، ولا ممن يدّعي العصمة والأفضلية المطلقة وأننا شعب الله المختار أو المحتار ... ولكن!
مللنا ونحن لا نذكر الخير إلا فيمَن يموت؛ طبعاً إن لم نختلف فيه بين مَن يجعله في جنات النعيم أو يرمي به في نار الجحيم! ولكنها باتت سنّة ماضية فينا مع الأسف؛ وكأننا لا نعرف الخيّرين إلا بعد أن يموتوا وينقطع الانتفاع بهم؛ فأين نحن من الأحياء؟ أليس فينا من أخيار؟ أليست عندنا محاسن؟
فاذكروا محاسن أحيائكم ....
قضى الله أن أتزلزل مرتَين في الزلزال؛ فقد شهدتُ الزلزال في الداخل السوري، وشهدتْه أسرتي في هاتاي، وأدركني وأسرتي لطفُ الله فنجونا في الموضعَين، وحين استطعت العودة إليهم والخروج بهم من هاتاي ونزلنا أنقرة أقبلَ علينا الأحبّة للسلام والاطمئنان، فكان من غريب الحديث ما نذكره لهم عن تكافل الناس في الداخل خاصة وفزعتهم لبعضهم في الزلزال؛ فكانوا يَعجبون ويُعجبون!
اذكروا محاسن أحيائكم .....
أفضلُ ما لمستُه خلال الأيام الأولى من الزلزال التي عشتها في الداخل لهفةُ الناس بعضهم على بعض وفزعتُهم لمساعدة المنكوبين منهم؛ رغم أن غالبية أهلنا في الداخل هم من المنكوبين بالفقر أو التهجير أو البطالة أو بآثار الفقدان موتاً أو اعتقالاً أو اختفاءً قسرياً، أو ممن ابتُلي بتلك الابتلاءات جميعها.
اذكروا محاسن أحيائكم.....
تنصرف الأذهان اليوم، وتُرفع الأكفّ بالدعاء، وتزدحم الصفحات بالثناء على أصحاب الخوذ البيضاء أبطال الدفاع المدني السوري، وهم أهلٌ للثناء والدعاء والشكر الجزيل؛ لأنهم قدّموا نموذجاً ناجحاً مميزاً للمؤسسات الثورية المدنية في زحمة الفشل الذي يُدمي قلوبنا في مؤسساتنا العسكرية والمدنية، ونجحوا رغم ضعف الإمكانيات وخذلان الأصدقاء والأوصياء، ورغم اعتراف الأمم المتحدة ذاتها بتقصيرها وخذلانها شعبنا المكلوم في أقسى كارثة طبيعية يتعرض لها .... ولكن!
لم يكن أصحاب الخوذ البيضاء وحدهم؛ ولو أنهم كانوا وحدهم لَفشلوا دون شك، بل لعل من أهم أسباب نجاحهم أن الناس كلهم معهم يدعمونهم ويدافعون عنهم، ومَن يعجزون يدعون لهم.
اذكروا محاسن أحيائكم ....
اذكروا أن قرى إدلب الفقيرة فزعت وتبرعت بأغلى ما تملك للمتضررين من الزلزال..
اذكروا أن الباب وأهلها والمهجّرين فيها تبرعت وأسرعت من بعيد إلى جنديرس، وفي أكثر من حملة وجهة تنشط من أجل المنكوبين..
اذكروا أن أهل تل أبيض أرسلوا من الفرش التي ينامون عليها ولم يجدوا غيرها فكتبوا عليها اعتذار الكريم العزيز وأرسلوها..
اذكروا فزعة عشائر دير الزور؛ فقد جادوا لأنهم أهل جود رغم البُعد والحاجة، وسيّروا قافلة تزيد على ما أرسلته الأمم المتحدة المتخاذلة عن نصرتنا..
اذكروا أن مصابين وأصحاب أعمال تركوا بيوتهم وأعمالهم وأسرعوا للإنقاذ والنبش في الركام بأيديهم..
اذكروا أن الفرق التطوعية من الطلبة والمعلمين والأكاديميين أسرعوا لنصرة المنكوبين والعمل في إيصال المساعدات إليهم؛ لم تمنعهم امتحانات ولا التزامات ولا أعمال ولا قلة ذات يد..
واذكروا أن المقيمين في إسطنبول ومختلف الولايات التركية قد أسرعوا بالحملات لإغاثة المنكوبين في هاتاي وعينتاب ومرعش والداخل السوري..
اذكروا أن نساء تبرّعن بذهبهنّ للمتضررين؛ وما أصعب أن تتخلى المرأة عن ذهبها، ثم ما أجمل أن تخرج عنه وتبذله كرامة لوطنها وأهلها المنكوبين!
اذكروا أن مِن السوريين مَن تبرع براتبه أو باع سيارته وبعض رزقه ليقدّمه للمنكوبين..
اذكروا أن طلاباً جامعيين وأكاديميين وكتّاباً ومدرّبين قد تطوعوا للعمل وجمع التبرعات ومساندة المتضررين، ونزلوا إلى ميادين العمل ورفع الأنقاض..
اذكروا أن أطباء من أرقى التخصصات والمستويات تركوا مَهجَرهم وفزعوا نصرةً لأهليهم المنكوبين من الولايات المتحدة وكندة ودول الخليج..
اذكروا أن نساء عظيمات من حرائر سوريا هنّ في صفوف فريق الدفاع المدني السوري يَعملْن بلا كلل، وأنّ منهنّ مَن قضت تحت أنقاض الزلزال وآثاره التالية..
واذكروا أن قوافل امتدّت جواً وبرّاً من البحرين وقطر والسعودية والكويت، وجاءتنا إلى الحدود؛ سواءٌ أدخلوها أو منعوها..
اذكروا أن مصريين شرفاء كانوا مع فرق الإنقاذ في جنديرس منذ الأيام الأولى، وأن ضباطاً ووجهاء قطريين وسعوديين وبحرينيين وكويتيين فزعوا من بلدانهم وقضوا ساعات طويلة من إسطنبول إلى مدن الجنوب التركي والشمال السوري..
من باب أولى أن نتفق على صحة ذكر محاسن الأحياء والكفّ عن المساوئ؛ على الأقل ونحن ما زلنا في حضرة الموت وتراكم الأنقاض على المفقودين..
فاذكروا أن إخواننا نصرونا ووقفوا معنا، وإن اختار بعض المخذولين الأسد للوقوف معه وهو الجاني، وإن قيل: ألا ترى بعض داعمينا قد دعموا قاتلنا كذلك؟ قلت: يريدون أن يدعموا أهلنا هناك، وإن استفاد منها الأسد اللصّ وزبانيته؛ ولأنني وعدت نفسي ألا أدخل في السياسة فلن أقول: هذا من فشل معارضتنا الكريمة في نزع الشرعية عنه حتى الآن!
يختلف أصحاب صنعة الحديث النبوي في صحّة حديث "اذكروا محاسن موتاكم وكفّوا عن مساويهم"، فمن باب أولى أن نتفق على صحة ذكر محاسن الأحياء والكفّ عن المساوئ؛ على الأقل ونحن ما زلنا في حضرة الموت وتراكم الأنقاض على المفقودين..
فتلك بعض محاسن أحيائنا؛ فلنذكرها، ولنكفّ عما فينا من مساوئ وشرور لا ننكرها، فكثير من الأبنية تهدّمت وكثير منها متصدّعة يُخشى سقوطها؛ فقد سقطت أوهام وأسماء وكيانات كثيرة، وأخرى تترنّح متصدّعة تكاد تقع ونرتاح منها. خاصة أننا نرى مساوئ غيرنا قد افتُضحت، ولم تسترها حتى أشد الأزمات والابتلاءات من العنصرية المقيتة والطائفية البغيضة.
اذكروا محاسن أحيائكم قبل أن تبكوهم وتندموا أنكم لم تُنصفوهم؛ ولاتَ ساعة مَندم!