مع التعليم في الشمال السوري.. لا تَهدِمُوا عمود الخيمة

2024.07.31 | 11:15 دمشق

آخر تحديث: 31.07.2024 | 11:15 دمشق

56444444444444444
+A
حجم الخط
-A

كتبَ أكاديميّ سوريّ قديرٌ يقيم في إسطنبول على صفحته عن جامعات الثورة في المناطق المحررة: "لا نستطيع أن نسمّيَها جامعات إلا بالمعنى المجازي للكلمة؛ فالجامعة تسقط إن فرضت وصايتها على الفكر، والجامعي الذي لا يعرف إلا الرأي الواحد، والمذهب الواحد، والكتاب الواحد؛ سيختنق بجهله. لو أن طالباً في جامعة ثورية سجّل الماستر في أخرى؛ لاختُبر في عقيدته على نحوٍ يذكّرنا بمحاكم التفتيش في الأندلس"، كما قال!!

وحيث إن الشيخ الدكتور الفاضلَ ممن يُتابَعون ويُسمع لهم، وإنني مُرابط على جبهات التعليم في الشمال السوري منذ سنوات، بعد دراسة في سوريا بين جامعة حمص وجامعة دمشق ثم في تركيا بين جامعة سليمان ديمريل وجامعة بينغول، وإن لي تطوافاً جيداً وعلاقات جيدة مع عدد من الجامعات المرموقة في دول الخليج أيضاً؛ فلي في الجامعات ما يسمح بالإجابة والتعليق ليس ردّاً على أحد؛ بل بياناً للحال التي يبدو أنها تخفى أو تدقّ على بعض السوريين، بمَن فيهم الأكاديمي المراد وغيره.

إشارات لابد منها

لا يُجادَل في أن التعليم من أهم عوامل الاستقرار المأمول الذي يمسك الناسَ عن التفكير في الهجرة واللجوء، ولولا توفر التعليم في المناطق المحررة لعله لم يبقَ فيها أحد. فإن نكن تورّطنا بشعار "لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس"؛ فلا يَعدُو أن يكون أملاً زائداً وشوقاً للحرية غير صحيح، ولكن الحقّ يُقال بأن حرص الشعب السوري على التعليم تحت ظلال حرب شعواء شنّها نظام الأسد وحلفاؤه عليه يستحقّ الإعجاب والتقدير؛ فالمناطق التي أطبق عليها الحصار لسنوات كالغوطة الشرقية لم يتوقف فيها التعليم حتى تهجير الناس منها، وكان فيها كثير من مراكز التعليم المدرسي والتعليم الجامعي وأكثرها في الأقبية تحت الأرض من شدة القصف.

وكانت أولى عمليات تعديل المناهج الدراسية ومراجعتها قد بدأت منذ عام 2013، وشاركتْ فيه أكثر من جهة علمية جمعت أكاديميين وتربويين متخصصين.

ومنذ عام 2015 بدأ التعليم العالي بجامعة حلب في المناطق المحررة وجامعة الشام التي أسستْها منظمة وجامعة إدلب فور تحرير إدلب، وتضمّ جامعات المحرر اليوم ما يزيد على 50 ألف طالب جامعي في مختلف التخصصات. وبسبب اختلاف السيطرة والقوى على أرض الواقع فثمّة مجلس للتعليم العالي في الحكومة السورية المؤقتة تتبع له الجامعات في مناطقها، ومجلس للتعليم العالي يشرف على الجامعات في مناطق هيئة تحرير الشام يتبع لحكومة الإنقاذ. ولكن الشهادة الثانوية في المناطق كلها هي الشهادة الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في الحكومة السورية المؤقتة ويقدّمها الطلبة في إدلب وسواها لأنها معتمَدة خارجياً في عدة دول.

لم يكن بُدّ من هذا التقديم مع ما نجده من جهلٍ بالواقع ومسيرة التعليم عامة في الشمال السوري؛ فكانت أولى الإشارات على الطريق.

التعليم اليوم في الشمال لا يعرف عُمراً ولا يمنع منه بُعد ولا قلة ذات يد.

الإقبال على التعليم

يُدمي القلوبَ الحيّة ما نعايشه من مستويات عالية للأمّيّة في مخيمات الشمال السوري خاصة، واستحضار عمليات التهجير القسري، واستهداف أركان العملية التعليمية كلِّها بشكل ممنهج؛ من قصفِ المدارس، وقتلِ المعلمين والطلبة أو اعتقالِهم، وقلة المتوفر من المناهج المقررة يشرح بعض ذلك. لكنّ هذا كلَّه رغم مأساويته لا يُلغي أن أول ما يلفت النظر هو الإقبال العام على التعليم؛ ففضلاً عما ذكرنا من استمرار التعليم في أشد الحصار والقصف، لا تخطئ العين ما نرى من الاهتمام بالتعليم لدى الناس جميعِهم رغم انخفاض مستوى المعيشة بشكل كبير وصعوبة المواصلات، فنرى اليوم على مقاعد الثانوية والجامعات مواليد الستينيات والسبعينيات مع مواليد 2000 وبعدها، ونرى مَن يأتي الجامعة على "الموتور" في أتعس الطرقات لأكثر من 20 أو 30 كم، أو يسلك مثلها بسرافيس جماعية ينتظرون بعضهم ساعات ويجتازون عدة قرى توفيراً على أنفسهم بعض الليرات؛ فالتعليم اليوم في الشمال لا يعرف عُمراً ولا يمنع منه بُعد ولا قلة ذات يد.

مستوى الجامعات وخرّيجيها

فهل ما سبق من حديث عن إقبال الناس على التعلّم يعني أن التعليم الذي يُقبلون عليه في أحسن مستوياته؟

لا؛ لكنه بعمومه في أحسن مستوى ممكن بحسب ما يتوفر. وهذا لا يعني القَبول بسقف منخفض بحجة الظروف والواقع كما تحاول بعض المؤسسات التعليمية المدرسية والجامعية؛ وفي الوقت ذاته لا يعني عدم توفر مستويات جيدة ومتقدمة في مؤسسات أخرى، وإن كان تقصيرٌ في السياسات والإجراءات ففي الخطط الأكاديمية مستوى أفضل -على الأقل- من جامعات نظام الأسد بكثير. ولعله يغيب عمّن يحجبه البُعد والسماع أن أكثر الجامعات في المحرّر تضمّ في مجالس أمنائها أكاديميين وخبراء يتوزعون في عدة دول، ومنهم متخصصون في جامعات عالمية مرموقة وأصحاب خبرة متقدمة في التعليم العالي والتخطيط.

وأنّ كثيرين ممن يدرّسون هم أكاديميون سابقون ذوو سنوات وخبرة في الجامعات السورية وغير السورية؛ فضلاً عمَّن يُستفاد منهم عن بُعد في تخصصات غير متوفرة ويقيمون ويعملون في جامعات كثير من الدول، ولا أعرف أحداً ذا بالٍ شاركَ معنا من الخارج إلا أثنَى على العمل وتفاعل الطلبة؛ لاسيما مع وجود برامج لم تكن في جامعاتنا -وغيرها- سابقاً كبرامج الصيف الإثرائية وبرامج خدمة المجتمع.

ونحن -العاملون في التعليم بالشمال السوري- لا ننكر وجود أخطاء كثيرة؛ لكنّ أكثرها ليس مقصوداً، بل هو بسبب تراكمات الأخطاء الثورية العسكرية والمدنية، لا بسبب المؤسسات التعليمية ذاتها، مع العمل الدؤوب لتجاوز هذه الأخطاء وعدم شرعنتها؛ وفيما ينهض وينقرض من المشاريع التعليمية آيات على البقاء والاستبدال.

أية وصاية والمظاهرات تخرج في كل مكان ولا تعرف كبيراً؟! هل هذا شعب سيرضى بوصاية أحد عليه؟!

أجواء الحرية لا تسمح بالوصاية

وأمّا الإيهام بالوصاية على الفكر وامتحان الناس في الجامعات فلْيعذرنا الشيخ أنه إن صحّ زعمُه على كليات الشريعة فلا يصحّ على غيرها؛ وهذا من ميراث حقبة الأسد وضيق بعض المشايخ المتصدّرين بالاختلاف والرأي الآخر، فهل يصحّ اتخاذ هذا مطعناً على كل الجامعات في المحرر؛ ونحن مأمورون بالعدل وعدم الإطلاق والتجنّي؟! ويزيد الادعاءَ أسىً أن يبدو عن جهل بأجواء الحرية التي تعيشها المناطق المحررة، حتى لَتكاد تكون فوضى مخرّبة؛ فأية وصاية والمظاهرات تخرج في كل مكان ولا تعرف كبيراً؟! هل هذا شعب سيرضى بوصاية أحد عليه؟!

وأمّا ما ذُكر من مساوئ اعتماد الكتاب الواحد والفكر الواحد فهذا لا يَطعن في جامعات المحرر كما أوهمَ كلامه؛ بل في جامعات أكثر الدول، العربية والإسلامية خاصة؛ ولعل جامعات المحرر بما تعيش من الحرية العامة أبعدُ من غيرها عن ذلك بكثير.

عدم التعاون بين الجامعات

وكذلك الإيهام بعدم تعاون المؤسسات التعليمية فيما بينها؛ ولعله يشير إلى الانقسام بين جامعات إدلب وجامعات المؤقتة، لكنّ هذا أيضاً لا يصحّ وإن صحّ عدم الاعتراف الكامل بينها بسبب الاختلاف السياسي بين "الإنقاذ" و"المؤقتة"، مما لا يدَ للتعليم فيه ولا رِجل؛ ولعل التعليم تجاوزه أكثر من غيره من القطاعات، ومن ذلك اعتماد الشهادة الثانوية عن الحكومة المؤقتة في إدلب، وبداية الاعتراف المتبادل بالجامعات تباعاً، وأن أكثر الأكاديميين يدرّسون في كل الجامعات؛ بين جامعات إدلب والمؤقتة والجامعات التركية أيضاً. فضلاً عن مشروع رائد أطلقته جامعة المعالي للإيفاد الداخلي لطلبة الدراسات العليا كان ربطاً وثيقاً للجامعات ببعضها، وغيره من الاتفاقيات والبرامج المشتركة بين الجامعات في المحرّر؛ وما أحوجنا للمبادرات البنّاءة!

ولولا حُسن الظنّ بالشيخ الدكتور لجاز القول: إنه يبرّر لمَن يقيم خارج سوريا بحجة تعليم أبنائهم في جامعات لائقة؛ لتتجدّد صاعقة كلام الخارج للخارج والداخل للداخل، ولا أحسب فضيلته أراد ذلك. ولكنّ علينا التنبّه والحذر لخطورة الطعن بالتعليم في المحرّر؛ فقد فشلت أكثر مشاريع الثورة العسكرية وكثير من مشاريعها المدنية، فلا نتجاوز ذلك ونكمل بهدم عمود الخيمة التي تُؤوي الناس في الشمال، وهو التعليم.

كان الطنطاوي قد أطلق في إحدى مقالات "في سبيل الإصلاح" دعوة قوية بعنوان "إلى القرية يا شباب"؛ ولعلنا أحوج ما نكون إليها اليوم قبل زعزعة الثقة بالتعليم وبالمحرّر: هلمّوا إلى التعليم أيها الأكاديميون والمعلّمون المخلصون للقضية؛ فلن ينهض التعليم في المحرّر ما لم نَعمل معاً، والعملُ صوتُه أعلى من كل قول.