مطلع الشهر الجاري، أكّد بيان صادر عن الجيش الأميركي مقتل "أبي الحسن القريشي" زعيم تنظيم "داعش" الإرهابي، وأوضح أن مقتله حصل خلال عملية نُفِّذت في ريف درعا جنوب سوريا في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وأتى هذا الإعلان بعد نحو شهرين من إعلان التنظيم مقتله ولم يُقدّم وقتها أية تفاصيل أو معلومات حول الزمان أو المكان الذي قُتل فيه.
بطبيعة الحال، أشار البيان الأميركي إلى أن تنظيم "داعش" الإرهابي مازال يُشكِّلُ خطراً على المنطقة، وأن القيادة المركزية الأميركية تعمل على التركيز مع الحلفاء والشركاء على هزيمته، لكن اللافت في الأمر هو إشارة الأميركيين إلى "الجيش السوري الحر" كمُنفّذ للعملية التي أطاحت برأس التنظيم الذي أرّق العالم وأرعبه بجرائمه.
إعلان الأميركيين صراحة أن من قام بها هم مقاتلون من الجيش الحر يُعتبر بقعة ضوء كان يجب على المعارضة السورية استغلالها بسرعة والبناء عليها
في الحقيقة، تستحق العودة إلى هذه التسمية التوقّف عندها، ويجب أن تثير الانتباه، صحيح أن وسائل الإعلام الروسية أقحمت مشاركة قوات النظام السوري في هذه العملية إقحاماً غير صحيح، وأن وسائل إعلام النظام نسبت العملية إلى الجيش السوري، إلا أن إعلان الأميركيين صراحة أن من قام بها هم مقاتلون من الجيش الحر يُعتبر بقعة ضوء كان يجب على المعارضة السورية استغلالها بسرعة والبناء عليها، وهو ما لم يحصل حتى الآن على الأقل.
من قام بالعملية هم عناصر اللواء الثامن، وهو فصيل وافق الروس على تشكيله وفق اتفاق تسوية جرى عام 2018 مع مقاتلي الجيش الحر، وسُجِّل هذا الفيلق نظرياً على سجلات قوات النظام، لكنّه في الواقع لم يكن مُلحقاً بقوات النظام ولم يُصبح جزءاً منها، ولم يحظ بأي دعم من النظام، وحتى الروس أوقفوا أي دعم عنه منذ سنتين، وبقي كفصيل يعمل في جنوب سوريا ضمن توازنات مُتفاهم عليها مع روسيا، قوامه مقاتلون محليون، ودوره أيضاً محلي يضمن الأمن وتوازن الاستقرار في المنطقة ضمن قدراته الضعيفة جداً.
ما حصل فعلياً بدأ قبل أشهر طويلة، حين شهد جنوب سوريا حركة نشطة لعودة تنظيم "داعش" إليه، عودة يُقول الناشطون في المنطقة إنها تمت برعاية من المخابرات العسكرية السورية، وبتسهيل واضح من حواجز النظام وحواجز حزب الله اللبناني المنتشرة في الجنوب وفي البادية، وترافق مع هذه التحركات عمليات واسعة النطاق لتجارة المخدرات، وتم رصد مجموعات كبيرة من المتطرفين من تنظيم الدولة وغيره تتسلل إلى مناطق الجنوب السوري، حيث استولى التنظيم على مزارع وبيوت وأراضٍ خصوصاً في جاسم في ريف درعا، وأنشؤوا محكمة شرعية، ودار حسبة، وبدأت المنطقة تشهد عمليات اغتيال لمقاتلين سابقين من الجيش الحر، وجمع إتاوات من السكان، وعمليات واسعة لشراء الأراضي والمزارع والبيوت.
هذا التوسّع الاستيطاني لم يعجب أهالي الجنوب، الذين رفضوا قطعياً أن تُقام إمارة إسلامية متطرفة كان يسعى التنظيم لتأسيسها في حوران، فطلب الأهالي من اللواء الثامن التدخل وطرد الغزاة من جاسم التي استحكموا بها، وتجاوب مقاتلو اللواء مع طلب الأهالي باعتبارهم جميعهم من أبناء المنطقة، وحوصرت المنطقة وبدأت ساعة الصفر دون علم النظام، ودون أن يسمح المقاتلون لقوات النظام حتى بالاقتراب، وانطلقوا من بصرى الشام التي يتموضعون فيها، وحدثت اشتباكات أسفرت عن مقتل العديد من مقاتلي التنظيم وعلى رأسهم زعيمه الذي فجّر نفسه، وتعرّفت عليه زوجته، وأكّد لاحقاً تحليل الحمض النووي شخصيته.
تؤكد المصادر، أن المساعدات لهذا اللواء توقفت قبل سنتين، وعُرضت عليهم المشاركة في القتال في ليبيا دون أن يلقى هذا العرض قبولاً منهم رغم الإغراء المادي، وتراكمت عليه الديون المحلية، ووصلت وفق مصادر خاصة إلى نحو مليار ليرة.
القضاء على تنظيم الدولة في درعا يؤكد أمرين، الأول أن اللواء الثامن هو فصيل قادر على حماية الجنوب من مخاطر تنظيم الدولة الإرهابي، معتدل وقادر رغم ضعف تسليحه، لم يتماه أو يندمج مع النظام، وفيه ما يقرب من 1600 مقاتل من أهالي المنطقة، وهو عيّنة عن فصائل أخرى مازالت موجودة في سوريا. والأمر الثاني يتعلق بوصف الأميركيين له بـ "الجيش الحر"، وهو أمر يفتح بقعة ضوء في جدار مصمت، سرعان ما ستُغلق إن لم تستغلها المعارضة السورية.
من سيحمي سوريا من خطر المنظمات الإرهابية، ومن تسيّب النظام، وميليشيات المخدرات التابعة له ولحزب الله، هم السوريون أنفسهم
على المعارضة السورية أن تتبنى هذا الحدث، وتستثمر به إلى أبعد حد، وتُظهر للأميركيين والأوروبيين وغيرهم أن في سوريا شباباً قادرين على أن يكونوا قوة مكافحة إرهاب قوية ومدعومة من المجتمع المحلي، وأن من سيحمي سوريا من خطر المنظمات الإرهابية، ومن تسيّب النظام، وميليشيات المخدرات التابعة له ولحزب الله، هم السوريون أنفسهم، المقاتلون المعتدلون الذين يمكن أن يكونوا نواة قوة ضاربة تحقق الاستقرار لسوريا، يمكن أن تحمي سوريا، من المعابر الحدودية إلى عمق الداخل، وأنهم البديل لكل التنظيمات الأخرى التي يراهن عليها الأميركيون، كقسد وغيرها.
فكرة كهذه يمكن أن تلفت نظر الأميركيين والأوروبيين بجدّيتها، ويمكن أن تحظى بتأييد تركي وروسي وعربي، ويمكن أن تُعيد بعض أوراق القوة إلى يد المعارضة، بأن في سوريا قوى مُهمّشة، وهنا ليس اللواء الثامن وحده المعني، بل أيضاً قوى أخرى تنتظر أن يُعاد تنظيمها، ويُعاد تجديدها وتنظيم إداراتها، لتقوم بمهمة راهنة مهمة تتعلق بحماية سوريا من التنظيمات الإرهابية، ولتكون نواة قوة وطنية شاملة تضمن أمن سوريا في المرحلة الانتقالية.