بين يدي كتاب بعنوان "الجندي السوري في ثلاث حروب" وهو كتاب نادر حقاً، فهو سيرة لشخص يدعى "جبرائيل إلياس ورد" من مواليد طرابلس في لبنان، إذا كتبت اسمه على جوجل لن تجد له ذكراً، ولن يظهر لك إلا عنوان هذا الكتاب، وقصته وتجربته الطريفة لن تعثر عليها.
عاش جبرائيل شبابه في أميركا، وسجل مذكراته عام 1919 وطبع الكتاب على نفقة سليم أفندي ملوك، أحد التجار السوريين في نيويورك، وحكى جبرائيل في الكتاب قصة تطوعه في الجيش الأميركي واشتراكه مع الأميركان في ثلاث حروب هي الحرب الإسبانية الأميركية 1896، وتدخل القوات الأميركية في الفلبين 1905، والحرب العالمية الأولى 1914.
يخبرنا جبرائيل في المقدمة أن هذا الكتاب لا يعالج الموضوعات الاجتماعية والفلسفية، بل الكتاب عبارة عن "اختبارات اختبرتها، وغرائب شاهدتها، وأهوال صادمتني وصادمتها إبان ثلاث حروب كنت فيها محارباً، دفعتني الرغبة لبسط حقائقها ووقائعها أمام قراء العربية". ويؤكد مراراً أنه ليس بكاتب، ولا يحاول أن يعظ الناس، بل قصده أن يدون حوادث وعوامل نفسية، لا يراها ولا يشعر بها إلا من خاض المعامع، وسمع دوي المدافع، وشهد لمعان الحراب على حد وصفه.
يبدأ الكتاب بتحية للراية الأميركية، والكتاب أقرب إلى الدعاية للجيش الأميركي. لكن، خلال الكتاب نرى الكثير من القصص عن حياة الجنود، وتميزت لغة جبرائيل إلياس بالفخامة والجزالة، ويشرح لنا جبرائيل سياق الحرب الأميركية الإسبانية حول كوبا، وتدخل الحكومة الأميركية في الحرب، وانضمام فرقة من أصدقائه للتطوع في الجيش، وعن مراحل التقدم والاختبارات وصولاً إلى الانتقال لجبهة القتال.
في الثلاثين من شهر أيار من عام 1898، أقلعت السفينة من مرفأ تامبا بـ 15 ألف جندي، ومعهم الكاتب جبرائيل، ويصف لنا وصولهم إلى جزيرة كوبا، وحالتهم البدنية عندما وصلوا إلى الجزيرة وقد أنهكهم الجوع، فأخذوا يأكلون الفاكهة، ويشرح لنا طعام الفطور حيث وزعت عليهم فاصوليا محفوظة في علب، وعلبتان من البندورة المحفوظة، وعشرون قطعة من الخبز المقدد "البقسماط"، وساعدته قدرته على التحدث بالإسبانية على التميز في صفوف الجيش الأميركي حيث قدم خدماته في الترجمة، تعرف جبرائيل على القائد العسكري ثيودور روزفلت بسبب معرفة جبرائيل باللغة الإسبانية، وروزفلت قائد هذه الحرب سيصبح رئيساً للولايات المتحدة الأميركية بعد ذلك (1901-1909).
نرى في سرد الجندي لقصة أيامه في الجيش الأميركي، الكثير من المواقف مثل ارتباكه من صوت الرصاص وشعوره بالخوف والتردد، ثم تعوده على القتال حتى أصبح صوت الرصاص أقرب إلى صوت الرصاص في مهرجان عرس، وهو يحكي مواقف عجيبة مثل موقف قتل إسباني لزميله في الجيش الأميركي، وعندها قام جبرائيل بطعن الإسباني في عنقه، مات على أثرها هذا الجندي، وهو يخبرنا بشعوره بعد هذا القتل بأنه "طابت نفسه ووجد في هذا الانتقام السريع لذة فائقة".
سرد جبرائيل يتميز بالصدق الفني في التعبير عما حدث معه، نرى شخصية تشبه شخصية المغامرين والشطار وفيها بعض أخلاق الفهلوة والنصب
بعد إصابة جبرائيل في إحدى المعارك أغمي عليه، واستيقظ وهو في عناية الصليب الأحمر، وجبرائيل محب للغزل والفتيات لا يفوت فرصة حتى وإن كانت نادرة لظهور سيدة أو فتاة التقى بها إلا ويحكي عنها ويتغزل بجمالها، يقول عن الممرضة: "كانت صبية أشبه بالملائكة منها بالبشر يزين صدرها صليب أحمر، فتطلعت في بنظرة ملؤها الحنان والشفقة، وهي تبتسم ابتسامة أنستني آلامي وأوجاعي لأنها كانت ابتسامة بعيدة عن كل غش وخداع".
سرد جبرائيل يتميز بالصدق الفني في التعبير عما حدث معه، نرى شخصية تشبه شخصية المغامرين والشطار وفيها بعض أخلاق الفهلوة والنصب، نراه يدخن سيجارته وهو عائد من الحرب جالساً في القطار، وتحرق السيجارة البرنطية العسكرية دون انتباه منه، وتحدث عدة ثقوب فيها حتى يخيل للناظر فيها أن البرنيطة خاضت غمار المعركة معه، وفي رتشمند في فيرجينيا، يرى حفاوة الجمهور بأبطال كوبا، وجاء أحد الأغنياء وسأله عن القبعة هل شاركت في القتال معك فإن أثر الرصاص ظاهر في جوانبها؟ فأجاب جبرائيل: نعم! إن رصاص موقعة سان جون قد فعل ذلك، وباعها جبرائيل بخمسة وعشرين دولاراً، وفي رحلة العودة بالقطار اشترى جبرائيل قبعات بعض الجنود وجلس يثقبها بنار السيجارة ليبيعها للأميركان في المحطات التي يتوقفون فيها.
نتوقف في النص على نظرات الإعجاب من الفتيات له، وعندما قابلته صبية يصفها بأنها من حور الجنان، وتقدمت له وقالت له أرى أن يدك مجروحة فهل تسمح لي أن أقطع اللحم لك، وجلست تطعمه وهو يتعلل بأن اليد الأخرى مشلولة بالروماتيزم، فجلست إلى جانبه تلقمه كما تلقم الأم الرؤوم رضيعها، ثم يخبرنا أن على القارىء أن يتصور كيف كان طعم ذلك الطعام في فمه، وأمنية جندينا أن يكون له بطن الحوت الذي بلع النبي يونس وأن تتولى تلك الحسناء ملأه.
وصل القطار إلى واشنطن واستقبلهم الرئيس الأميركي ماكنلي، ووزعت على الجنود علب السجائر وصناديق الحلوى، وفي إحدى المرات اقترب منه أحد الأغنياء وسأله هل أنت من سكان كوبا؟ فرد جبرائيل: لا، بل أنا سوري، ورد الأميركي "يا مسكين وما شأنك بالحرب"، ويرد عليه جبرائيل بمرافعة عن شرف الراية الأميركية الظافرة، وجلس الأميركي يردد كلمة "مسكين مسكين"، ثم سأله الرجل الغني عن أحد زملائه من الجنود، فقد كان هذا الرجل هو والد الجندي الأميركي وقتل ابنه في الحرب وكان جبرائيل يعرفه، نتعجب من صدق وصراحة جبرائيل، فهذا الجندي الذي قتل كان يلح عليه جبرائيل لكي يشاركه السجائر، ويخبرنا أنه عندما رفض هذا الجندي إعطاء جبرائيل السجائر دعا عليه وقال إن شاء الله إنك تموت غدا، وحدث المقدر في اليوم التالي، ولا يخجل جبرائيل من حكاية أنه مد يده إلى ملابس الجندي المقتول وأخرج علبة الدخان وأشعل سيجارة وهو يلتفت إلى جثة زميله المطروحة أمامه ويقول رحمك الله يا من فرجت كربي والله، لا أبدل هذا الدخان بثقله ذهباً!
كان جبرائيل يردد في كل مكان أنه جندي سوري غريب في بلاد ليس له فيها أحد، حتى إن صحيفة كتبت خبراً عنه وأنه لا يوجد لديه مال، فاستلم تبرعات من بعض الأثرياء لكي يسافر إلى نيويورك. في حالة السلم نرى نشاطه السياسي، نرى مجتمعاً للسوريين العرب في نيويورك وجمعية باسم "المنتدى السوري الأميركي" تقيم احتفالاً بعودة بعض الجنود المشتركين في الحرب، وبعد الاحتفال جلس بعض أعضاء الجمعية وتناقشوا حول ظهور جمعية تركيا الفتاة ضد السلطان عبد الحميد الثاني، وقرر المجتمعون ومنهم جبرائيل إنشاء جمعية باسم سوريا الفتاة تعارض الدولة العثمانية من أميركا، وتنشر المقالات في الصحف بل تنظم بعض المظاهرات ضدها، وانزعج السفير العثماني في الولايات المتحدة من هذه الجمعية ونشر في بعض الجرائد الموالية له مقالات ترد على أفكار جمعية سوريا الفتاة، من العجيب أن هذه المذكرات توضح لنا صفحة من النقاشات المحتدة بين أنصار الدولة العثمانية ومعارضيها في بلاد المهجر، وامتد نشاط الجمعية لاستقبال الكاتب سليم سركيس الذي سافر إلى أميركا، بعد طلب الحكومة التركية من مصر تسليمه لها.
اعتزل جبرائيل الجندية فترة بعد عودته إلى أميركا، وبعد مدة طلبت منه الحكومة مرافقة البعثة التي سترسلها لإحضار رفات الجنود الذين صرعوا في الحرب الأميركية الإسبانية، وعاد جبرائيل مع أول باخرة من كوبا إلى الولايات المتحدة تنقل 700 جثة أو تابوت، بعد أن مقتت نفسه تلك المناظر الرهيبة والروائح القذرة قرر التوقف عن العمل وعاد إلى نيويورك، وعندما عاد قابل أحد القادة الذي عرض عليه التطوع للذهاب لجزر الفلبين، وفي الفلبين لم تكن هناك معارك كبيرة بل صراع أقرب إلى الحرب الخاطفة أو حرب العصابات، ونراه يسرد بعضاً من مغامراته وحيله في الفلبين، وكيف تنكر كبائع يحمل المنتجات على كتفه ليعتقل أحد المطلوبين، وقضى جبرائيل ثلاث سنوات في الفلبين، وعاد إلى واشنطن وتعلم قيادة السيارات وتصليحها، وقضى فيها ثماني سنوات وليته حكى لنا عن سنواته خارج الجندية ورؤيته للمجتمع الأميركي.
تبدو قيمة الكتاب عندما يستغرق جبرائيل في وصف حياة الخنادق وطرق العيش فيها، وعن نشاطهم اليومي في الخنادق
في شهر أيلول عام 1914، سمع جبرائيل بالحرب العظمى، وتزامن ذلك مع خسارته بضاعته في محل صغير التهمته النار، واتخذ خسارته المادية دليلاً على وجوب التطوع في الجيش، ويحكي لنا القلق الذي لازم الجنود وهم يعبرون المحيط الأطلنطي على إحدى السفن، وهم يشعرون بالقلق من هجوم الغواصات الألمانية، وظلوا ستة أيام في عرض البحر وشبح الموت مصور أمامهم، إلى أن بلغوا ميناء ليفربول بسلام، وفي نيسان 1916، سافر من إنجلترا إلى فرنسا واشتركوا في معركة السوم الشهيرة.
تبدو قيمة الكتاب عندما يستغرق جبرائيل في وصف حياة الخنادق وطرق العيش فيها، وعن نشاطهم اليومي في الخنادق، وهنا نلتقط صورة جندي عادي بعيداً عن الدعاية السياسية للدول، يصف لنا تاريخ الحرب من أسفل، وهو يصف تلك المشاعر بقلم رهيف، يقول عن الجندي الذي يحتاج لنور الشمس بسبب رطوبة الخنادق، إن هذا الجندي الذي يخرج من الخندق ليلتمس الدفء والهواء النقي "يبقى أليف الهواجس وسمير القلق إذ لا يعلم متى يهجم الأعداء مباغتين فتستعر نار المعركة وقد يكون جسده أول الوقود لها".
يعبر جبرائيل عن أشهى ساعات الجنود في الخنادق في الساعة السابعة صباحاً، حينما يوزع عليهم مشروب "الرم" والذي يصف شعوره بعد شربه، إذ يتجرعه الجندي فيشعر بتولد الحرارة في جسمه وبقوة في عضلاته وتجدد في قواه، بل إن بعض الجنود يدخلون موجة ضحك ومجون وينسون أنهم في ساحة المنايا ولا يعلمون متى تفارق أرواحهم أجسادهم، ويصف لنا فرحة الجنود بوصول الرسائل من أهلهم، وهو يصف وجوه الجنود في الخنادق بأنها أشبه بوجوه الرهبان الشرقيين منها إلى سحنات الغربيين، فكلها مكسوة بالشعر، والملابس لا يتم تبديلها إلا كل فترة طويلة، حتى إنه كتب: لو زرع الفجل على ملابسنا لوجد له تربة ليتأصل وينمو. ويحكي عن القمل المنتشر بين الجنود، وعن الخوف من سطوة الجرذان التي يخافون منها أكثر من الألمان، بسبب عضات أسنانها، ونرى في أحد سطور الكتاب حديثاً عن جنود عرب من سكان الجزائر التي كانت تابعة لفرنسا، لكنه يحكي عن شدة قتالهم في المعارك لدرجة قطعهم آذان الألمان ونظم تلك الآذان في عقود.
هكذا نمضي مع المؤلف في رحلته وتجربته وما شاهده، تمنيت لو حكى أكثر عن سنواته في أميركا ومصادر ثقافته، لغته العربية جميلة وهو يستشهد بالشعر كثيراً، وينقل شعر إيليا أبو ماضي فرحا بسقوط الخلافة، ويتابع الصحف العربية التي تصدر في أميركا الجنوبية والبرازيل، وقد شعرت بندرة هذه الشهادة من جندي مقاتل في بلاد بعيدة، وتذكرت ما دونه الجندي إحسان الترجمان في كتاب عام الجراد عن سنواته في الحرب العالمية الأولى في القدس، أو مذكرات الجندي عبد الله دبوس الضابط البيروتي في الجيش العثماني، وغيرها من شهادات الجنود في المعارك الكبرى، لنرى نظرة مختلفة عن تنظير القادة ورأيهم في الحروب نظرة تصف الحياة اليومية للجنود ومتاعب الجندية.