بين يدي كتاب بعنوان "سقوط العثمانيين: الحرب العظمى في الشرق الأوسط" ليوجين روغان، جذيني العنوان الشيق والغلاف الأنيق الذي يظهر فيه جنود عثمانيون على جبهة جناق قلعة (غاليبولي). اقتنيت الكتاب وأبحرت معه في تفاصيل السنوات الأخيرة من حكم العثمانيين، يبدأ الكتاب بحكاية مؤلمة عن العريف جون مكدونالد، شقيق جد المؤلف يوجين روغان. قاتل مكدونالد في الحرب العالمية الأولى ومات على جبهة غاليبولي، هكذا يشرح لنا الكاتب صلته الشخصية بأحداث الحرب العالمية الأولى، وهي صلة ليست فريدة، فقد وجد استطلاع أن نسبة 46 % من البريطانيين يعرفون فرداً من العائلة أو عضواَ في المجتمع المحلي خدم في الحرب العالمية الأولى.
يذهب يوجين إلى مقبرة شقيق جده في جناق قلعة، وبالصدفة يقف أمام النصب التذكاري للجنود الأتراك في الحرب، وعلى الرغم من أن وحدة شقيق جده فقدت 1400 رجل، أي حوالي نصف قوتها الإجمالية، وخسرت بريطانيا 3800 رجل، فإن خسائر العثمانيين بلغت 14000 بين قتيل وجريح في المعركة، يوضح يوجين أن الكتب التي قرأها عن الجنود الاسكتلنديين الذين فقدوا في غاليبولي لم تذكر الآلاف من قتلى الحرب العثمانيين.
لقد غادر يوجين النصب التذكاري وهو يشعر بمدى جهل الغرب بتجارب الترك والعرب في الحرب العظمى. لقد عبرت عشرات الكتب التي صدرت بالإنجليزية عن الحرب عن مركزية أوروبية، وتناولت مختلف جبهات شرق المتوسط لكن بتركيز على تجارب البريطانيين أو الحلفاء. كانت غاليبولي هزيمة تشرشل، ومعارك كوت العمارة هي استسلام القائد تاونسند، والثورة العربية تستدعي صورة لورنس العرب، وكذلك دخول اللنبي القدس، هكذا يريد الكتاب الخروج من تجارب بريطانيا والحلفاء إلى التعرف على الجانب الآخر من تجارب الجنود العثمانيين الذين حوصروا في شرك الكفاح اليائس للبقاء في مواجهة غزاة أقوياء.
مرت الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، واستدعت الكثير من المراجعات التاريخية حول هذه الحرب. لا تتوقف الدراسات عن قراءة تلك الفترة، هناك إغراء يدفع الباحثين لسبر أغوارها، وهذا السبب في ظني، يكمن في كونها ليست حرباً فقط بل خروج من عصر إلى عصر، وهي نهاية تجربة تاريخية طويلة للعثمانيين تجاوزت الخمسة قرون، وصعود قوى جديدة، وتغير في الخرائط. كل هذا يدفع الباحثين والقراء لفهم تفاصيل تلك الفترة. لقد حول دخول العثمانيين الحرب النزاع الأوروبي إلى حرب عالمية، وغيرت الحرب العالمية الأولى خريطة الشرق الأوسط، ولم يستطع أي جزء من المنطقة تجنب خرابها فعليا، كان سقوط العثمانيين حادثاً فريداً وعلى درجة هائلة من الأهمية.
يكتب يوجين عن التفاصيل التاريخية بقلم رشيق وممتع كأنها لقطات في فيلم سينمائي ينتقل المشاهد معها بفضول لمعرفة الحدث التالي. وتكمن أهمية الكتاب، والميزة المهمة أيضاً التي نجح فيها، في إحياء أصوات الجنود العاديين العثمانيين من خلال الإطلاع على المذكرات والسير، وأي وثائق تحكي عن رؤية الجنود للحرب، بالإضافة لمذكرات القادة والعسكريين. لقد أضفت المذكرات التي يستشهد بها روغان روحاً حية للكتاب جعلته قريباً من القارىء. لا يخلو فصل من الكتاب من الاستشهاد بمذكرات وشهادات الجنود والرسائل الشخصية، مما جعل من قراءة الكتاب فرصة لفهم مشاعر الجنود والمقاتلين بدلا من الاستغراق مع أوهام القيادات العسكرية وطموحاتها وأوامرها وتجاهل أهم عنصر في الحرب وهم الجنود والبشر. نتتبع في هذا المقال بعض الشخصيات والمصادر التي عاد لها روغان لنرى كيف جعل من رواية أحداث العشر السنوات الأخيرة من حكم العثمانيين رواية درامية ملونة بأصوات القوميات والإثنيات التي شاركت فيها.
يستشهد يوجين "بمذكرات جمال باشا" التي دون فيها تفاصيل الحرب، لنرى فيها خطط جمال باشا، بل ندمه أحياناً عندما غادر فيصل ابن الشريف حسين دمشق، حيث وعد فيصل بالعودة بجيش من قبائل البدو ليهرب من يد جمال باشا، وليعد مع أبوه للثورة على العثمانيين، نرى ندم جمال باشا لأنه لم يحتحز فيصلاً في دمشق، ونرى كذلك رواية جمال باشا لتفاصيل الحرب في سيناء ودفاعه عن مواقفه السياسية والعسكرية.
من المذكرات المميزة التي يعود لها المؤلف، مذكرات الصحفي العثماني فالح رفقي، الذي ترقى في المراتب، في مقر الصدر الأعظم، وأثار اهتمام قيادة الاتحاديين بسبب الأعمدة الأسبوعية التي كتبها في صحيفة إسطنبول "طنين". عمل فالح مراسلاً حربياً في البلقان، حيث قابل أنور باشا، ثم عينه طلعت باشا، بصفته وزيراً للداخلية، سكرتيراً شخصياً، وحين غادر جمال باشا اسطنبول ليصبح حاكما لسوريا وقائدا للجيش الرابع، طلب بشكل محدد أن يلحق رفقي بهيئة أركانه رئيسا للاستخبارات، ووصل إلى القدس عام 1915، ولم تترجم مذكرات رفقي "جبل الزيتون" التي صدرت عام 1932 إلى العربية ، رغم ترجمتها إلى الفرنسية.
عندما تقرأ الكتاب تشعر بالحاجة إلى تنشيط حركة الترجمة من التركية إلى العربية، لنقرأ شهادات القادة العسكريين الأتراك عن سير المعارك وبعضها في الولايات العربية، أو حتى مشاعر الجنود العثمانيين الذين قاتلوا في بلدان عربية، وعادوا إلى تركيا وسجلوا شهاداتهم. نرى الجندي العثماني أمين تشول، الذي شارك في معارك غاليبولي سابقاً، في الخنادق التركية حول بئر سبع، وهو يستيقظ على أصوات المدفعية البريطانية، ويكتب بعدها: "لم نكن نائمين على أي حال". كانت خسائر العثمانيين مرتفعة والروح المعنوية ضعيفة مما جعل أمين يسجل في يومياته: "أي نوع من الحرب نخوض، لا تتوافر للجيش العثماني مدفعية فعالة، ولا قوات احتياطية، ولا مدافع رشاشة مؤثرة، ولا طائرات، ولا ضباط قادة، ولا خطوط دفاعية ولا قوات احتياطية، ولا هواتف، الجنود يقاتلون في عزلة كاملة عن بعضهم، وروحهم المعنوية منهارة، في الحقيقة لا يملك هذا الجيش أياً من العناصر التي يحتاج إليها للفوز".
عندما يشرح يوجين روغان الحصار البحري الذي فرضه الحلفاء على بلاد الشام، والمجاعة التي تعرضت لها المنطقة، يعود إلى "مذكرات شكيب أرسلان" ليتحدث عن واسطة أنور باشا مع الفاتيكان لإقناع الحلفاء بالتخفيف من قيود الحصار لإدخال المعونات لإطعام الجيش والمدنيين في سوريا. ثم يصف لنا تلك المجاعات التي اجتاحت بلاد الشام بالعودة إلى كتاب "الرحلة السورية في الحرب العمومية" للقس بطرس الخوري الذي شهد حالة هذه المناطق وكتب عنها برواية شاهد عيان عام 1915، وعندما يريد وصف مدينة القدس خلال فترة حملة جمال باشا يعود لأوراق الجندي إحسان الترجمان ليرى فيها حالة الجوع وانتشار الجراد وقلة المحاصيل.
يسرد روغان قصة الثورة العربية وحركة الشريف حسين ضد العثمانيين ويستعين بالعديد من الذين شاركوا فيها، مثل محمد علي العجلوني، في كتابه "ذكرياتي عن الثورة العربية الكبرى" وكان قد ساهم مع الأمير فيصل بن الحسين بدخول دمشق، وكان إلى جانبه مع نشوء الحكومة العربية الفيصلية، وكذلك يعود لمذكرات علي جودت بعنوان "ذكرياتي" التي يحكي فيها عن دوره مع نوري السعيد والضباط العرب في الثورة العربية، وكذلك يستشهد بمذكرات جعفر العسكري الذي شارك في الثورة وأصبح أول وزير للدفاع للعراق بعد ذلك، وبالطبع يعود لمذكرات الضابط تي. إيه. لورنس، المعروف باسم لورنس العرب في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة". ولا يكتفي المؤلف بهؤلاء بل يورد روايات لمن قاتل ضد الثورة العربية مثل عودة سلمان الهلسا الذي جمع قوات من الكرك لصد هجمات الثورة العربية وسجل تفاصيل هذه الفترة في مذكراته. ونراه يستعين ببعض المذكرات غير المنشورة حصل عليها بنفسه مثل مذكرات صالح التل أحد أعيان إربد الذي كلف بتجنيد الميليشيا، وكذلك الأوراق الخاصة لقائد قوة المتطوعين الشراكسة.
تسقط بغداد في يد القوات البريطانية وتقوم القوات العثمانية بالجلاء عن المدينة، يصف يوجين روغان حادثة من مذكرات طالب مشتاق "أوراق أيامي" التي يحكي فيها طالب عن استدعاء الوالي له ولأخيه لكي يرسلهما إلى والدهما في بعقوبة، وهكذا نرى المشهد مصحوباً بمشاعر الناس الذين تأثروا بهذه الانتصارات والإخفاقات العسكرية.
في ذكر التفاصيل العسكرية، نرى مشاهد ولقطات من مذكرات القائد الألماني ليمان فون ساندرز قائد مجموعة يلدريم أي الصاعقة الذي سجل تجربته في الحرب العالمية الأولى، في كتاب بعنوان "خمس سنوات في تركيا" ولم يترجم للعربية، وفكرة هذه المجموعة العسكرية من أفكار أنور باشا، وهي ثمرة التحالف العثماني الألماني. قاد ليمان معارك سيناء بجانب جمال باشا لصد هجمات البريطانيين، ويحكي عن تفاصيل قيادته العسكرية وسقوط فلسطين، إلى استسلام الألمان وإشرافه على جلاء القوات الألمانية من الدولة العثمانية.
يضفر يوجين تفاصيل المذكرات داخل النص ببراعة تضفي روحاً شيقة كأنها رواية تتصاعد فيها الأحداث إلى لحظة الذروة والانهيار، نراه يراجع سجلات القنصل الأميركي في طرابزون في فترة سيطرة الروس على المنطقة، حيث ظلت القنصلية مفتوحة، واحتفظ القنصل بسجل موجز للأحداث السياسية، من هذه التفاصيل نرى أثر حدوث الثورة الروسية على الجنود والتشوش الذي حدث لديهم، حيث كانت روسيا مع الحلفاء، ومع سقوط القيصر، قررت الانسحاب من الحرب. أدان البلاشفة الحرب باعتبارها مشروعاً إمبرياليا، وسعوا إلى سلام عبر المفاوضات، دون ضم أراض ودون تعويضات، وكانت المفأجاة قيام ليون تروتسكي بنشر فضائح النظام القيصري البائد على صفحات جريدته إزفستيا، في أواخر نوفمبر 1917، وهكذا فضح خطط التقسيم بين بريطانيا وفرنسا وتفاصيل اتفاقية سايكس بيكو.
يحفل الكتاب بذكريات الجنود، مثل مشاعر جنود بريطانيين عند دخول أريحا بعد سقوط فلسطين، والفرق بين خيالهم التوراتي من النصوص المقدسة وواقع المدينة الذي أرعبهم. ونرى رسائل جنود هنود بالأوردية يحنون إلى الهند أو مشاعرهم في الأسر بعد معركة كوت العمارة بالعراق، أو توتر الجنود الأستراليين مع قرار الإدارة البريطانية إرجاع الفرق النيوزيلاندية والأسترالية إلى أوطانهم وإعدام الخيول، ومشاعر جندي متعلق بحصانه، ويخاف عليه أن يتحول لحصان جر بعد الحرب، ومشاعر الجنود العرب من شمال إفريقيا الذين أجبروا على الالتحاق بقوات الحلفاء، أو أسر الألمان لبعض الجنود العرب.
نصل مع الكتاب إلى سقوط الحكم العثماني، وفرار القادة الثلاثة جمال وطلعت وأنور بعد خسارة الحرب، وقد لقوا حتفهم جميعاً بعد الحرب في عمليات اغتيال متفرقة، حيث قتل جمال في تفليس بجورجيا، وطلعت وبهاء الدين شاكر في برلين، والصدر الأعظم سعيد حليم في روما، أما نهاية أنور باشا فكانت في قتاله ضد البلاشفة في منطقة الحدود الطاجكية الأوزبكية عام 1922.
انتهت الحرب وجاء مؤتمر فرساي لكي يتم تقاسم تركة الرجل المريض، وتوزيع الأراضي العربية، والغدر بالشريف حسين. سنوات حاسمة مليئة بالخدع السياسية والحيل، وترسيم الحدود، ويضعنا المؤلف في صورة اسطنبول عشية سقوطها ووصول سفن الحلفاء إلى قصر دولمة بهجة، وحزن صاحب مركب في اسطنبول على الخراب الذي حدث، نسمع كلمات المراكبي يرويها القس بالاكيان.
نرى جهود مصطفى كمال في مقاومة خطط تقسيم تركيا، ودخوله حرب الاستقلال، التي أكسبته لقت أتاتورك أي أبو الترك، لجهوده العظيمة في إعادة تركيا موحدة بعد قرارات الحرب العالمية الأولى الجائرة، نرى فلسطين في يد الانتداب البريطاني، وفيصلاً على عرش العراق، وأخاه عبد الله على عرش الأردن، وسوريا من نصيب فرنسا، وفي الحجاز يسقط الشريف حسين، وتظهر قوة جديدة بقيادة الملك عبد العزيز آل سعود، ونصل إلى لحظة انتهاء هذه الرحلة من الصراعات والمفاوضات، والأهم فيها أنه قدم أصوات الجنود وعبر عنهم وعن مخاوفهم، وخرج من المركزية الأوروبية.