"معبر أبو الزندين".. هل يشعل فتيل تحولات جذرية في الشمال السوري؟

2024.08.25 | 05:38 دمشق

آخر تحديث: 25.08.2024 | 05:38 دمشق

هذه الخطوة لا تخلو من مخاطر وتحديات جمة، خاصة بالنسبة للمعارضة السورية والحاضنة الشعبية في الشمال، فالمخاوف من أن يكون فتح المعبر بداية لسلسلة من التنازلات السياسية والأمنية تلقي بظلالها على المشهد
+A
حجم الخط
-A

في خضم التطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة السورية، يبرز افتتاح معبر أبو الزندين كحدث محوري يعيد تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي في الشمال السوري.

هذا المعبر، الذي يربط بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام السوري، يفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات عميقة حول مستقبل المنطقة ومآلات الصراع السوري المستمر منذ أكثر من عقد.

وبينما تصاعدت أصوات الاحتجاج الشعبي مع مطلع تموز/يوليو 2024، رافضةً أي شكل من أشكال التقارب مع النظام، تمضي عجلة الدبلوماسية في مسارٍ مغاير تماماً، فالتفاهمات الجارية بين النظام السوري وتركيا، تحت مظلة الرعاية الروسية، تكشف عن ديناميكية معقدة تتجاوز الرفض الشعبي، وهذه العملية التي تهدف إلى تطبيع العلاقات بين الطرفين، تسير وفق خطى مدروسة ومراحل متأنية.

وهنا أقتبس من أحد الباحثين قوله "يبدو أن تركيا جادة في التطبيع مع النظام نظراً لمصالحها الكبيرة التي تمكنت من إبرامها مع الجانب الروسي، وهي تدرك من جانب آخر مأزق النظام المتمثل بعدم قدرته على اتخاذ قرار مستقل وتبعيته لروسيا أو إيران".

ولعل أبرز ما يلفت الانتباه في هذا السياق هو تشابك المصالح الإقليمية والدولية التي دفعت نحو هذه الخطوة، فتركيا، التي تسعى جاهدة لتعزيز مكانتها الاقتصادية وتأمين طرق تجارية بديلة بعد إغلاق معبر حيفا، ترى في هذا المعبر فرصة ذهبية لتصدير منتجاتها إلى دول الخليج بكلفة أقل ووقت أسرع.

هذا التوجه التركي، ومن وجهة نظر متطابقة مع عدد من المحللين والاقتصاديين المهتمين بهذا الملف، يتقاطع مع رغبة دول الخليج في تنويع مصادر استيرادها وتخفيض أسعار السلع، مما يشكل محركاً قوياً لدفع عجلة التطبيع الاقتصادي في المنطقة.

في المقابل، يجد النظام السوري في هذا الانفتاح فرصة ثمينة لاختراق الحصار الاقتصادي المفروض عليه، فعبر تحصيل الرسوم على الشاحنات العابرة وإعادة تنشيط الحركة الاقتصادية في حلب والمناطق الخاضعة لسيطرته، يأمل النظام في تحسين وضعه المالي المتردي وتعزيز شرعيته الدولية.

هذه الخطوة لا تخلو من مخاطر وتحديات جمة، خاصة بالنسبة للمعارضة السورية والحاضنة الشعبية في الشمال، فالمخاوف من أن يكون فتح المعبر بداية لسلسلة من التنازلات السياسية والأمنية تلقي بظلالها على المشهد

ولكن، هذه الخطوة لا تخلو من مخاطر وتحديات جمة، خاصة بالنسبة للمعارضة السورية والحاضنة الشعبية في الشمال، فالمخاوف من أن يكون فتح المعبر بداية لسلسلة من التنازلات السياسية والأمنية تلقي بظلالها على المشهد، وبالتالي هناك تخوف حقيقي من أن يستغل النظام هذا الانفتاح لتعزيز نفوذه العسكري في المنطقة، مع الحديث عن احتمالية فتح الطريق الدولي M5 وما قد يترتب عليه من تقدم للنظام باتجاه مناطق حساسة في إدلب ومحيطها.

على الصعيد الإنساني، يثير فتح المعبر جدلاً واسعاً حول مصير المساعدات الدولية وآلية إيصالها، فبينما يرى البعض أن هذه الخطوة قد تسهل وصول المساعدات إلى المناطق المحتاجة، يخشى آخرون من أن يستغلها النظام للسيطرة على توزيع هذه المساعدات وتوظيفها سياسياً.

وفي خضم هذه التطورات، يبقى السؤال الأهم: إلى أين يتجه الشمال السوري؟ هل سيؤدي هذا الانفتاح إلى تحسن تدريجي في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، أم سيكون بداية لمرحلة جديدة من التنازلات السياسية؟

يمكن القول، إن الشمال السوري يشهد مرحلة حرجة مع إعادة فتح معبر أبو الزندين، في خطوة تعكس تحولات جيوسياسية عميقة في المنطقة، وهذا التطور يأتي في سياق معقد من التوازنات الإقليمية والدولية، حيث تتقاطع مصالح القوى الفاعلة بشكل يتجاوز إرادة الأطراف المحلية السورية.

ومن المهم الإشارة إلى أن فتح المعبر ليس حدثاً جديداً كلياً، بل هو استئناف لحالة كانت قائمة قبل جائحة كورونا والتطورات العسكرية الأخيرة في إدلب، وهذا يشير إلى وجود استمرارية في بعض أنماط التعامل بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام، رغم حدة الصراع السياسي والعسكري.

ويبدو جلياً أن القرار بإعادة فتح المعبر يأتي نتيجة تفاهمات (تركية روسية)، متجاوزاً رغبات أو اعتراضات الفصائل المحلية والمجتمع المدني في مناطق المعارضة، وهذا يؤكد حالة انعدام السيادة الفعلية للأطراف السورية على قراراتها الاستراتيجية.

ورغم وجود معارضة شعبية قوية لفكرة التطبيع مع النظام، كما تجلى في المظاهرات الأخيرة، إلا أن هذا الرفض لا يبدو كافياً لمنع تنفيذ القرار، ما يشير إلى محدودية تأثير الحراك الشعبي على القرارات الكبرى في المرحلة الراهنة.

وتبرز أهمية البعد الاقتصادي والخدمي في تبرير فتح المعبر، من خلال الحديث عن تأمين المياه والكهرباء وتسهيل التبادل التجاري، وهذا قد يشكل مدخلاً لتطبيع تدريجي للعلاقات بين المناطق، تحت غطاء الضرورات الإنسانية والاقتصادية.

في سياق ذي صلة، فإن غياب الدور الأميركي الفاعل في هذا الملف يشير إلى تركيز واشنطن على قضايا أخرى في الملف السوري، تاركة مساحة أكبر للتفاهمات "التركية-الروسية" في الشمال.

وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن استنتاج أن المشهد في الشمال السوري يتجه نحو مرحلة جديدة من إعادة ترتيب العلاقات بين مختلف مناطق السيطرة، وهذا التوجه قد يؤدي إلى تخفيف حدة الفصل بين المناطق، لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات جدية حول مستقبل المشروع السياسي للمعارضة وقدرتها على الحفاظ على استقلالية قرارها.

ومن هنا، يمكن القول إن المرحلة القادمة ستشهد مزيدا من التحديات للقوى المحلية في الشمال السوري، التي ستجد نفسها مضطرة للتكيف مع واقع جديد يفرضه تقاطع المصالح الإقليمية والدولية.

فمثلاً، مع تدفق التجارة عبر المعبر الجديد، قد نشهد بداية عملية تطبيع تدريجي بين مناطق المعارضة والنظام، وقد يمهد هذا الانفتاح الاقتصادي الطريق لتخفيف التوترات السياسية وفتح قنوات اتصال جديدة، لكن هذا التقارب يحمل في طياته مخاطر جمة، إذ قد يستغله النظام لتعزيز نفوذه وإعادة بسط سيطرته على مناطق إضافية.

وفي خضم هذه المجريات، قد تجد المعارضة نفسها في موقف صعب، فالخلافات حول جدوى وشرعية هذا الانفتاح قد تؤدي إلى انقسامات داخلية، مما يضعف موقفها التفاوضي ويجعلها أكثر عرضة للضغوط.

ولو عدنا إلى الشق الاقتصادي، ربما يشهد الشمال السوري انتعاشاً محدوداً قد يكون مصحوباً بتحديات جديدة، كاحتمال ظهور نموذج إداري مختلط في بعض المناطق، يجمع بين إدارة المعارضة وتعاون اقتصادي محدود مع النظام، ما قد يؤدي إلى إعادة هيكلة آليات إيصال المساعدات الإنسانية، مع احتمال زيادة دور النظام في هذه العملية.

أما على الصعيد الشعبي، فقد يؤدي الاستياء من هذه التطورات إلى موجة جديدة من الاحتجاجات، مما قد يعيد تشكيل المشهد السياسي في المنطقة، وبالتالي هذه الديناميكية المتغيرة قد تفتح الباب أمام تركيا لترسيخ نفوذها في الشمال السوري.

ومع هذا كله، يبدو أن مستقبل الشمال السوري يتأرجح بين فرص الانفتاح الاقتصادي ومخاطر التنازلات السياسية، فالتحدي الأكبر يكمن في إيجاد توازن دقيق بين تحسين الظروف المعيشية للسكان والحفاظ على المكتسبات السياسية للمعارضة.

ويبقى الرهان الأكبر على قدرة السوريين أنفسهم على صياغة مستقبلهم بما يحقق تطلعاتهم في الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، من دون الانجرار وراء حسابات المصالح الضيقة أو الانصياع لضغوط خارجية قد تأتي على حساب مصلحة الشعب السوري.

على الضفة الأخرى، لا يجب أن ننسى الطرف الإيراني ومعارضته الشديدة لافتتاح معبر أبو الزندين، إذ يُعتبر الموقف الإيراني من افتتاح المعبر معقدًا ومتعدد الأوجه، ويتأثر بمجموعة من العوامل المتداخلة، فلطالما كانت إيران حليفًا أساسيًا للنظام السوري، وبالتالي، فإن أي تطورات جديدة من شأنها أن تؤثر على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.

كما تنظر إيران إلى تركيا كخصم إقليمي رئيسي، وبالتالي، فإن أي اتفاق بين تركيا وروسيا حول سوريا، بما في ذلك فتح المعابر، قد يُنظر إليه على أنه انتصار تركي ويُضعف من نفوذ إيران.

وقد يكون لفتح المعبر آثار اقتصادية على إيران، خاصة إذا أدى إلى زيادة التجارة بين النظام السوري وتركيا، مما قد يقلل من الاعتماد على إيران كشريك تجاري رئيسي للنظام.

في النهاية، يبقى معبر أبو الزندين رمزاً لتعقيدات المشهد السوري، حيث تتشابك خيوط السياسة والاقتصاد والأمن في نسيج واحد، فهو يذكرنا بأن الحلول البسيطة نادراً ما تكون كافية لمعالجة أزمات بهذا التعقيد، وأن أي مسار نحو السلام في سوريا سيتطلب فهماً عميقاً لهذه الديناميكيات المتشابكة والمتناقضة في آن واحد.