تشهد العلاقات (التركية السورية) تحولاً ملحوظاً في الآونة الأخيرة، مع بروز مؤشرات على مسار تطبيع محتمل بين أنقرة ودمشق. يتجلى هذا التحول في تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة، التي تعكس انفتاحاً غير مسبوق تجاه نظام الأسد.
وفي هذه المادة أحاول تقديم تحليل عميق ومتعدد الأبعاد للوضع المتعلق بالمشهد السوري، مع مراعاة وجهات النظر المختلفة والعوامل المعقدة التي تؤثر على العلاقات التركية مع النظام في دمشق ومستقبل هذه العلاقات.
في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة في الشرق الأوسط، يبرز سؤال محوري: ماذا لو استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رئيس النظام السوري نظيره السوري بشار الأسد؟ هذا السيناريو، الذي كان يبدو مستحيلاً قبل سنوات قليلة، أصبح اليوم موضوع نقاش جدي في الأوساط السياسية والدبلوماسية.
لفهم أبعاد هذا التحول المحتمل، علينا أولاً استعراض الخلفية التاريخية للعلاقات التركية-السورية. فمنذ اندلاع الثورة السورية في 2011، اتخذت تركيا موقفاً واضحاً ورافضاً لممارسات نظام الأسد، ودعمت المعارضة السورية بشكل مباشر وغير مباشر. لكن مع تغير موازين القوى على الأرض، وتعقد المشهد الإقليمي والدولي، بدأت أنقرة الآن بإعادة تقييم سياساتها تجاه دمشق.
مسألة التطبيع بين تركيا والنظام السوري ليست حديثة العهد، بل بدأت منذ فترة. فقد شهدت الساحة الدبلوماسية عدة لقاءات بين مسؤولين من الجانبين، مع استمرار التواصل الاستخباري بينهما على الأرجح. ومن أبرز هذه اللقاءات اجتماع وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات لروسيا وتركيا وسوريا في موسكو بتاريخ 28 كانون الأول/ديسمبر 2022، تلاه اجتماع لوزراء خارجية الدول الثلاث في العاصمة الروسية في أيار/مايو 2023.
وخلال هذه المحادثات، برزت مواقف متباينة بين الطرفين. فالنظام يشترط انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية قبل بدء أي مفاوضات جادة أو تعاون في مكافحة ما يصفه بـ"الإرهاب". في المقابل، ترفض أنقرة فكرة الانسحاب المسبق، مؤكدة عدم وجود أطماع توسعية لديها في سوريا. وتشترط تركيا لأي انسحاب محتمل تحقيق تقدم ملموس في الملف السياسي، وقضية عودة اللاجئين، فضلاً عن التعامل مع قوات قسد في شرقي الفرات. لذا فإن هذه المواقف المتعارضة تعكس تعقيد المشهد وصعوبة التوصل إلى حلول سريعة في مسار التطبيع بين البلدين.
هناك عدة أسباب يمكن أن تكون وراء إعلان أردوغان، في مواقفه الأخيرة، إعادة العلاقات مع دمشق ورأس النظام السوري بشار الأسد، حتى تطور الأمر إلى إعلان أردوغان أنه "قد يوجه دعوة لبشار الأسد لزيارة تركيا".
ومن بين الأسباب والدوافع التي تقف وراء تبدل موقف أردوغان، إن أمكن القول، ومن بينها الملف الكردي، حيث يشكل وجود القوات الكردية على الحدود التركية- السورية هاجساً أمنياً لأنقرة، وبالتالي ترى أنقرة أن التقارب مع دمشق قد يساعد في الحد من نفوذ هذه القوات، في حين يقول قائل إن أنقرة تريد أخذ الشرعية من الأسد لتنفيذ عملية عسكرية ضد التنظيمات الكردية التي تصنفها على أنها إرهابية شرقي سوريا، حسب وجهة نظر أصحاب هذا الرأي.
ومن الأسباب كذلك، أزمة اللاجئين، حيث تستضيف تركيا ملايين اللاجئين السوريين، مما يشكل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً، ومن هنا ترى أنقرة أن التنسيق مع النظام في دمشق قد يسهل عودة بعض هؤلاء اللاجئين.
يضاف إلى الدوافع الأخرى ومنها اعتبار أنقرة أن إعادة العلاقات مع سوريا قد تفتح أسواقاً جديدة للشركات التركية، خاصة في مجال إعادة الإعمار، بالإضافة إلى أن تركيا تسعى لتعزيز دورها كلاعب إقليمي مؤثر، والتقارب مع سوريا قد يعزز هذا الدور.
لكن السؤال الأبرز والذي يتصدر واجهة المشهد تزامنا مع تصريحات أردوغان الأخيرة هو "ما الذي قد سيقدمه الأسد لأردوغان؟".
الجواب على هذا السؤال يكون بعكس السؤال، بمعنى "ما الذي ستقدمه روسيا لأردوغان في سوريا؟"، على اعتبار أنها هي صاحبة اليد الطولى على نظام الأسد، والتي ربما تحاول بيع الأوهام لتركيا بأن رأس النظام بشار الأسد قد يقدم ضمانات بشأن الحد من نشاط القوات الكردية على الحدود السورية التركية، وقد يتعهد بتوفير ظروف آمنة لعودة اللاجئين لكنه لن يقدم ضمانات كافية لعودة آمنة، وقد يمنح الأسد امتيازات للشركات التركية في مشاريع إعادة الإعمار، وقد يساعد التقارب مع سوريا في تحسين صورة تركيا إقليمياً ودولياً، مع ترجيحي بأن النتيجة "صفرية" ومعروفة فيما لو عادت العلاقات التركية مع نظام الأسد.
بالمقابل، فإن ما يهم أردوغان الآن هو الحد من التهديدات الأمنية على الحدود الجنوبية لتركيا، إيجاد حل لأزمة اللاجئين السوريين في تركيا، فتح أسواق جديدة للاقتصاد التركي وتعزيز التجارة الإقليمية، تعزيز مكانة تركيا كقوة إقليمية فاعلة.
ويمكن فهم التصريحات التركية الأخيرة على أنها تأتي في إطار استراتيجية متعددة الأبعاد، تهدف إلى ممارسة ضغط على الولايات المتحدة، كسب تأييد روسيا، تحقيق مكاسب سياسية داخلية.
بينما ما يهم بشار الأسد الشرعية الدولية وكسر العزلة الدولية وإعادة تأهيل نظامه إقليمياً ودولياً، جذب الاستثمارات الأجنبية لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، تعزيز استقرار النظام ومواجهة التحديات الداخلية.
ووسط هذه التطورات التي تلقي بظلالها على تطورات الملف السوري، فقد نشهد تقارباً بطيئاً ومدروساً بين البلدين، مع تبادل الزيارات على مستويات منخفضة قبل اللقاء الرئاسي. كما قد تلعب روسيا دوراً محورياً في تقريب وجهات النظر بين أنقرة والنظام.
وقد تواجه عملية التقارب معارضة من بعض القوى الإقليمية والدولية، مما قد يبطئ أو يعقد العملية. وقد تفشل محاولات التقارب بسبب خلافات عميقة حول قضايا مثل مصير المعارضة السورية أو الوجود العسكري التركي في شمالي سوريا.
إن التقارب المحتمل بين تركيا والنظام السوري يحمل في طياته فرصاً وتحديات على حد سواء. فمن جهة، قد يسهم في تخفيف حدة التوتر في المنطقة ويفتح الباب أمام حلول سياسية للأزمة السورية. ومن جهة أخرى، قد يثير مخاوف بعض الأطراف الإقليمية والدولية، خاصة تلك التي استثمرت في دعم المعارضة السورية.
على الصعيد الداخلي التركي، قد يواجه أردوغان انتقادات من المعارضة ومن بعض حلفائه السياسيين بسبب هذا التحول في السياسة الخارجية. لكنه قد يبرر ذلك بالمصالح الوطنية العليا، خاصة فيما يتعلق بالأمن القومي وأزمة اللاجئين.
أما بالنسبة للأسد، فإن استقباله في أنقرة سيكون بمنزلة انتصار دبلوماسي كبير (حتى وإن كان وهمياً)، يعزز شرعيته ويقوي موقفه في مواجهة المعارضة. لكنه قد يواجه ضغوطاً من حلفائه، خاصة روسيا وإيران، للحفاظ على توازن دقيق في علاقاته الإقليمية.
ومن وجهة نظري، فإن بشار الأسد مستعد أن يقدم أي شيء يطلبه أردوغان، لأنه لن يخسر مع تركيا أكثر مما خسره مع إيران وروسيا، وأعتقد جازما أن الأسد في جعبته مغريات كثيرة لأردوغان أهمها التعاون للقضاء على قسد ومشروعها، والأهم أنه سيكون جاهزاً للتنازل عن كرامته وثوابته التي كان يتشدق بها ومنح تركيا الكثير مقابل تخليها عن دعم ثوار الداخل المحرر وضبطهم بما في ذلك تعديل اتفاقية أضنة بما يناسب متطلبات الأمن القومي التركي.
إضافة إلى أن معضلة شرقي الفرات تمثل أحد أهم الشروط التركية في مفاوضاتها مع النظام السوري. غير أن الوجود العسكري الأميركي في المنطقة يشكل عائقاً أمام أي تحرك للأطراف الأخرى، لذا يسعى النظام السوري وحلفاؤه لاستغلال هذا الوضع، محاولين إقناع تركيا بقرب انسحاب القوات الأميركية، وضرورة التنسيق معهم للتعامل مع مرحلة ما بعد الانسحاب.
وقد تكون التصريحات التركية الأخيرة بشأن استئناف المفاوضات مع النظام السوري مرتبطة بهذه التطورات. ومع ذلك، من غير المرجح حدوث انسحاب أميركي قبل الانتخابات الأميركية المقررة في كانون الأول/ديسمبر القادم. هذا الواقع يحد من قدرة النظام السوري على تقديم أي تنازلات ملموسة لتركيا في هذا الملف في الوقت الراهن.
على الصعيد الدولي، قد يؤدي هذا التقارب إلى إعادة رسم خريطة التحالفات في المنطقة. فقد تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة لإعادة النظر في سياساتها تجاه سوريا، بينما قد تسعى روسيا لاستثمار هذا التحول لصالحها.
وأشير هنا إلى أن تحليل المشهد الحالي يكشف عن عقبات جوهرية تتمحور حول قضايا خلافية رئيسية، من بينها الوجود العسكري التركي في سوريا، إذ تصر دمشق على انسحاب تركي كامل، بينما ترفض أنقرة هذا الشرط، معتبرة وجودها ضرورة أمنية. كما تطالب تركيا بتقدم في تطبيق القرار الأممي 2254، في حين يبدي النظام السوري مماطلة في هذا الصدد.
ورغم الوساطة الروسية والعراقية لتحقيق التقارب التركي مع نظام الأسد، تظل آفاق التطبيع الكامل محدودة في المدى القريب. إذ من المرجح استمرار المحادثات والاجتماعات، مع إمكانية عقد لقاء قمة بين أردوغان والأسد. لكن التباين الكبير في المواقف، وعدم قدرة النظام السوري على تقديم تنازلات جوهرية، يجعل من الصعب توقع اختراق دبلوماسي كبير.
إن استقبال أردوغان لبشار الأسد، إن حدث، سيكون حدثاً محورياً في تاريخ المنطقة. قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من العلاقات الإقليمية، ويؤثر بشكل كبير على مسار الملف السوري. لكن نجاح هذا التقارب سيعتمد على قدرة الطرفين على تجاوز الخلافات العميقة وبناء أرضية مشتركة للتعاون. كما سيتطلب دعماً إقليمياً ودولياً، أو على الأقل عدم معارضة قوية من القوى الكبرى.
بالنسبة لي، فإن مسار التطبيع التركي- مع نظام الأسد يبقى رهيناً لتطورات إقليمية أوسع، خاصة فيما يتعلق بالوضع في شمال شرقي سوريا والموقف الأميركي. وتبقى المعادلة معقدة، مع استمرار تركيا في موقفها الحازم تجاه "قسد"، وعدم استعدادها للانسحاب دون ضمانات أمنية واضحة.
وفي النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل سيؤدي هذا التقارب المحتمل إلى تحسين حياة الشعب السوري وتحقيق الاستقرار في المنطقة، أم أنه سيكون مجرد إعادة ترتيب للمصالح الجيوسياسية على حساب تطلعات الشعوب؟ الإجابة على هذا السؤال ستتضح مع مرور الوقت وتطور الأحداث.