تجميد الوساطة الروسية بين أنقرة ودمشق وآمال التهدئة شمالي سوريا

2024.10.20 | 07:58 دمشق

آخر تحديث: 21.10.2024 | 06:24 دمشق

sdf
+A
حجم الخط
-A

في خضم التحولات الدراماتيكية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، يبرز تجميد روسيا لوساطتها بين تركيا والنظام السوري كحدث محوري يعكس تعقيدات المشهد الجيوسياسي الراهن.

هذا التطور، الذي يأتي في سياق تصاعد التوترات الإقليمية وحالة عدم اليقين السياسي على الساحة الدولية، يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة عن مستقبل الشمال السوري وتوازنات القوى في المنطقة ككل؟

يمكن القول إن قرار موسكو بتجميد وساطتها بحسب ما كشفه تلفزيون سوريا، لا يمكن فهمه بمعزل عن المتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة، فتصاعد حدة الصراع بين إسرائيل وحلفاء إيران وخاصة في غزة ولبنان، قد أحدث زلزالاً جيوسياسياً في المنطقة، مهدداً بإعادة تشكيل خريطة التحالفات بشكل جذري.

في الوقت نفسه، تلقي الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة بظلالها الثقيلة على المشهد، مع احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وما قد يحمله ذلك من تغيرات جوهرية في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط.

في هذا السياق، يبدو أن روسيا تتبنى استراتيجية "الانتظار والترقب"، فطلبها من بغداد بوقف الاتصالات بين أنقرة ودمشق بحسب موقع تلفزيون سوريا، يعكس رغبة موسكو في إعادة تقييم موقفها الاستراتيجي في ضوء المتغيرات المحتملة، في موقف روسي يكشف عن حسابات دقيقة تهدف إلى الحفاظ على نفوذها في سوريا من دون المخاطرة بعلاقاتها مع تركيا أو تقويض فرص التقارب المحتمل مع إدارة أميركية جديدة.

ما يهمنا في كل ذلك هو انعكاسات وتبعات هذا الموقف أو الخطوة الروسية على الشمال السوري، إذ إن تجميد الوساطة الروسية يضع الشمال السوري أمام سيناريوهات متعددة ومعقدة، فالمنطقة التي تشهد توازناً هشاً بين قوات المعارضة والقوات التركية و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، قد تجد نفسها على شفا تحولات دراماتيكية.

من المحتمل أن تكون المنطقة شمالي سوريا على موعد مع تصعيد العسكري، حيث إن غياب الضغط الدبلوماسي نحو التطبيع قد يؤدي إلى تصلب المواقف وزيادة احتمالات المواجهة العسكرية، إذ قد تجد فصائل المعارضة في هذا الوضع فرصة لتعزيز مواقعها، خاصة مع تراجع الضغوط الدولية نحو التسوية.

وربما يكون للتداخلات الإقليمية الجديدة دور في التحولات المرتقبة، بمعنى أن التصعيد الإسرائيلي الأخير ضد أهداف إيرانية في سوريا قد يفتح الباب أمام تدخلات إقليمية جديدة، وقد تجد تركيا نفسها مضطرة للتحرك باتجاه مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، خشية من استغلال الأخيرة للوضع لتعزيز "مشروعها الانفصالي".

ويمكن أن يؤدي هذا الوضع إلى إعادة صياغة التحالفات القائمة، فالتفاهمات التركية الروسية السابقة وحتى اتفاقيات أستانة قد تجد نفسها محل إعادة نظر في ضوء المتغيرات الجديدة.

وهنا علينا أن نعود إلى الوراء قليلاً، وأقصد اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا الذي تم التوصل إليه بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في آذار/مارس 2020، إذ إن هذا الاتفاق فشل في تحقيق هدنة دائمة، ليؤكد مرة أخرى تعقيد المشهد السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، وتعدد العوائق أمام أي حل سلمي.

ورغم أن الاتفاق تضمن بنوداً واضحة لوقف الأعمال العدائية وإنشاء مناطق عازلة وتسيير دوريات مشتركة، فإنه اصطدم بعدة تحديات أبرزها: خروقات مستمرة لوقف إطلاق النار خاصة من جانب قوات النظام السوري المدعومة روسياً، إضافة إلى رفض المعارضة للممر الآمن (يمتد 6 كيلومترات شمالي وجنوبي الطريق السريع M4، وهو طريق استراتيجي يربط بين اللاذقية وحلب) الذي اعتبرته تهديداً لأمن إدلب، وأيضاً الصعوبات في تنفيذ الدوريات المشتركة بسبب تعرضها للاستهداف.

كما أن أسباب الفشل في تطبيق القرار تعود إلى تعقيد الصراع السوري بتعدد الأطراف المعنية وتداخل المصالح الإقليمية والدولية، وغياب الثقة المتبادلة بين الأطراف المتنازعة، وكذلك اختلاف الأهداف، فالنظام السوري يسعى لاستعادة السيطرة، في حين تسعى المعارضة لتحقيق انتقال سياسي.

وكان من نتائج هذا الفشل استمرار المعارك والانتهاكات في إدلب، وزيادة التوتر في العلاقات التركية الروسية، في حين يؤكد فشل هذا الاتفاق أن الحل العسكري أو السياسي المنفرد غير كافٍ لإنهاء الصراع السوري، وأن الحاجة ماسة إلى حل سياسي شامل يرضي جميع الأطراف.

ولكن السؤال الأبرز أيضاً وسط ما يجري من تطورات متسارعة: ما تداعيات تجميد الوساطة الروسية؟ وهل تتجاوز حدود الشمال السوري لتشمل المشهد الإقليمي والدولي ككل؟

الإجابة واضحة، وهي أن تأثير الصراع الإسرائيلي - الإيراني الحاصل والتصعيد في غزة ولبنان وامتداده إلى سوريا يهدد بإحداث "تسونامي" جيوسياسي قد يعيد رسم خرائط المنطقة، ما يعني أن هناك مخاوف جدية من أن يؤدي هذا الوضع إلى زعزعة استقرار دول مثل العراق ولبنان، وربما يمتد تأثيره حتى إلى تركيا.

تأثير الصراع الإسرائيلي - الإيراني الحاصل والتصعيد في غزة ولبنان وامتداده إلى سوريا يهدد بإحداث "تسونامي" جيوسياسي قد يعيد رسم خرائط المنطقة

بالمقابل، فإن الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة تلقي بظلالها على المشهد، فعودة محتملة لترامب قد تعني تغيراً جذرياً في السياسة الأميركية تجاه المنطقة، مما قد يؤثر على حسابات جميع الأطراف المعنية.

ولا يمكن أن نتجاهل التنافس الروسي - الأميركي، فقرار روسيا بتجميد وساطتها قد يكون جزءاً من استراتيجية أوسع للتعامل مع التنافس المتصاعد مع الولايات المتحدة في المنطقة، إذ إن موسكو قد ترى في هذا التجميد فرصة لإعادة تموضعها استراتيجياً في مواجهة التحركات الأميركية المحتملة.

ولكن ما هو مستقبل العلاقات بين تركيا والنظام السوري في ظل الجمود الدبلوماسي؟ رغم تجميد الوساطة الروسية، تبقى العلاقات بين الجانبين محور اهتمام إقليمي ودولي، فأنقرة تواجه معضلة حقيقية بين رغبتها في تطبيع العلاقات مع النظام لحل مشكلة اللاجئين ومكافحة ما تعتبره تهديدات إرهابية على حدودها، وبين الحفاظ على نفوذها في الشمال السوري، في حين نشاهد أن رئيس النظام السوري بشار الأسد ورغم تصريحاته الصارمة بشأن ضرورة انسحاب القوات التركية كشرط للتطبيع، قد يجد نفسه مضطراً للمرونة في ظل ضعف حلفائه الإقليميين خاصة إيران وحزب الله.

من جانبها، فإن طهران التي لا تشجع على التطبيع بين تركيا والنظام السوري، قد تجد نفسها في موقف أضعف بعد الضربات الإسرائيلية الأخيرة، مما قد يؤثر على قدرتها في التأثير على مسار العلاقات بين أنقرة والنظام.

وفي ضوء هذه المعطيات المعقدة، يمكن رسم عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل الشمال السوري، ومن أبرزها سيناريو الجمود الاستراتيجي، حيث إن استمرار الوضع الراهن مع تجميد أي تحركات دبلوماسية جدية، قد يؤدي إلى تعميق الانقسامات القائمة وتعزيز سيطرة القوى المحلية على مناطق نفوذها.
ويمكن الإشارة إلى احتمال سيناريو آخر وهو سيناريو التصعيد العسكري، إذ يمكن أن نشهد اندلاع مواجهات عسكرية جديدة، خاصة مع تزايد التوترات الإقليمية وضعف آليات الوساطة الدولية.
وقد تؤدي المتغيرات الإقليمية والدولية إلى فتح قنوات جديدة للتفاوض، ربما بوساطة قوى إقليمية أخرى مثل السعودية أو مصر، وفي أسوأ الحالات، قد يؤدي استمرار الجمود إلى ترسيخ حالة التقسيم الفعلي للشمال السوري، مع إمكانية ظهور كيانات شبه مستقلة تحت نفوذ قوى مختلفة.

هل ستتمكن القوى الفاعلة من إيجاد صيغة جديدة للتعايش في ظل هذه المعطيات المعقدة، أم إن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من الصراع والاضطراب؟

ووسط كل ذلك، فإن تجميد الوساطة الروسية بين أنقرة والنظام السوري يمثل نقطة تحول محورية في مسار الملف السوري وتعقيداته، فهذا القرار الذي يأتي في سياق تحولات إقليمية ودولية عميقة، يضع الشمال السوري أمام مفترق طرق حاسم، فمستقبل المنطقة يتوقف على كيفية تعامل الأطراف المعنية مع هذا الوضع الجديد، وقدرتها على التكيف مع المتغيرات الجيوسياسية المتسارعة.

في النهاية، يبدو أن الشمال السوري مقبل على مرحلة من عدم اليقين الاستراتيجي، فتجميد الوساطة الروسية وإن كان قد يبدو خطوة تكتيكية في الوقت الراهن، قد تكون له تداعيات بعيدة المدى على المشهد السوري برمته.

وفي خضم هذه التحولات، يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن القوى الفاعلة من إيجاد صيغة جديدة للتعايش في ظل هذه المعطيات المعقدة، أم إن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من الصراع والاضطراب؟ الإجابة عن هذا السؤال ستحدد بلا شك مسار الأحداث في سوريا والمنطقة لسنوات مقبلة.