صدر حديثاً عن دار "نهوض" للدراسات والبحوث، كتاب "مصاحف الأمويين: نظرة تاريخية في المخطوطات القرآنية المبكرة" وهو ترجمة لكتاب الباحث الفرنسي الشهير فرنسوا ديروش (Qur’ans of the Umayyads: A First Overview). ويعدّ هذا الكتاب من أهم الدراسات المعاصرة التي تسلّط الضوء على المخطوطات الأولى للنصّ القرآني.
ويهدف الكتاب الذي ترجمه إلى العربية حسام صبري إلى تقديم لمحة عامّة عن المخطوطات القرآنية التي دُوّنت خلال العصر الأموي، أي خلال القرن الأول من تدوين آيات القرآن الكريم بعد أن كانت في السابق تتناقل شفهياً عبر حَفَظتها.
ويعد حفظ النص القرآني كما هو منزّل على النبي محمّد عليه الصلاة والسلام، حقيقةً مُسلّمة لدى كل المسلمين. إلَّا أن البحث التاريخي الذي يعرضه الكتاب لا يقف عند هذه الحقيقة المعلومة، بل يأخذنا في رحلة مشوّقة في تاريخ المخطوطات القرآنية المبكّرة، والتي تعود إلى العصر الأموي، وربما إلى ما قبله.
فيدرس ديروش في بحثه أساليب كتابة تلك المخطوطات، وإعجام الحروف واختلاف شكلها بحسب الأقاليم والكُتّاب. كما يستدل من المخطوطات الأولى على أنواع الحبر والورق ومختلف المواد المستعملة في النسخ، ومراحل تطور فنون الكتابة عبر الأجيال، مؤكداً بذلك دور المخطوطات في إثبات مصداقية ما ورد في النص القرآني والتراث الإسلامي عبر المرويات والنقل الشفوي.
كما يقارن المؤلف بين العديد من المخطوطات القرآنية المبكّرة، وما مرّ بها من تغيّرات في حقبة زمنية وجيزة، من ناحية أسلوب إخراج الصفحة وتسطيرها وزخرفتها، والخط المستخدَم في كتابة النص القرآني، بالإضافة إلى نوع المادة التي يُسطّر عليها النصّ كالجلود والرَقّ وغيرها.
فصول الكتاب ومضامينها
في الفصل الأول من الكتاب، يتناول ديروش موضوع "نسخ القرآن في بواكير الحقبة الأموية كأقدم مجموعة مخطوطات قرآنية". حيث يركّز على واحدة من أوائل المخطوطات الأموية، إن لم تكن الأولى على الإطلاق، والتي تم الاحتفاظ بمعظم أجزائها في باريس وسان بطرسبرج.
ويتناول في الفصل الثاني موضوع كتابة القرآن الكريم في مخطوطة حجازية (بالخط الحجازي). ويتأمّل فيه ديروش المصاحفَ الحجازية التي تسهم في فهم القواعد التاريخية لإنتاج المخطوطات القرآنية، ومن بين المخطوطات الواردة يركّز ديروش على ذكر ثلاث منهن باهتمام؛ واحدة محفوظة الآن في إسطنبول، وواحدة في لندن، وثالثة في سان بطرسبرج.
كما يتناول الكاتب أيضاً مناقشة مخطوطات أخريات في كل من صنعاء في اليمن والقيروان في تونس. إذ يشير المظهر العام لهذه المخطوطات، وخاصة أسلوب الكتابة اليدوية، إلى أقدم مجموعة مخطوطات قرآنية، وهي تتطابق مع أساليب التدوين في كتابة المخطوطات في الفترة الأولى. ومن المرجح أيضاً أن تلك المخطوطات تعود إلى ما قبل الربع الأخير من القرن الأول، أي إلى ما قبل عام 695 للميلاد (في عهد عبد الملك بن مروان).
أما الفصل الثالث، فيناقش موضوع "تغيّر شكل المصحف". ويدرس فيه المؤلف بشكل خاص مخطوطتين كبيرتين ذات تنسيق عمودي، ما يوضح مرحلة لاحقة من تطوّر ضبط وتشكيل القرآن الكريم وإصدار المخطوطات. وهاتان المخطوطتان يصفهن الكاتب على أنهن "مخطوطات دمشق الأموية"، واحدة منهما محفوظة في إسطنبول والثانية المسماة بـ "المخطوطة الأموية للفسطاط"، محفوظة في سان بطرسبرج وباريس.
وتظهر في المخطوطتين المذكورتين دوائر زخرفية واضحة جداً في الصفحات بين سور القرآن الكريم، وضمّت معظم تلك الزخارف أنماطاً نباتية من أوراقٍ منمنمة، وأنماطاً معمارية من خانات منمنمة أيضاً. ومن خلال تلك الأنماط يُمكن تأريخ تلك المخطوطات بأنها تعود إلى العصر الأموي.
ويصف ديروش أن الأمويين "أصدروا برعاية رسمية المصحف الجديد (بتلك الزخارف)، بهدف تحدّي الكتاب المقدّس المسيحي الذي كان فاخراً في مظهره".
تعدّ المخطوطات المذكورة الأبرز من بين مخطوطات رائعة قدّمها المؤلف في هذا الكتاب، والتي أراد من خلالها أن يبيّن للقارئ بأن المخطوطات الأموية المبكّرة للمصحف كانت أكثر ضبطاً ودقّة من المخطوطات السابقة
ويرى المؤلف في الفصل الرابع (الأخير) الذي يناقش موضوع "المنسخ الإمبراطوري"، أن ثمة مخطوطتين كبيرتين نالتا شهرة بين المتخصصين؛ الأولى وهي مخطوطة ضخمة محفوظة في دبلن، والثانية أقل ضخامة ولكن ربما كانت معروفة بشكلٍ أفضل، وأشار إليها المؤلف باسم "المخطوطة الأموية في صنعاء"، وهي محفوظة في صنعاء.
ويقول ديروش في النسختين: "إن كلًّا من نسخة صنعاء ومخطوطة دبلن قد تم إنتاجهما خلال العقود الأولى من القرن الثامن، تحت حكم الأمويين وربما في سياق رسمي. وفي هذه المرحلة من إنتاج المخطوطات الأموية، كان الاهتمام بالمظهر الفاخر للكتاب المقدّس قد انعكس على المصحف من الداخل والخارج. فكان المصحف ذا حجم كبير (المظهر الخارجي)، ونصوصه كانت مكتوبة بشكل جميل (المظهر الداخلي) وبذلك نشأت ثقافة حقيقية لشكل المصحف".
وتعتبر المخطوطات المذكورة سالفاً هي الأبرز من بين مخطوطات رائعة قدّمها المؤلف في هذا الكتاب، والتي أراد من خلالها أن يبيّن للقارئ بأن المخطوطات الأموية المبكّرة للمصحف كانت أكثر ضبطاً ودقّة من المخطوطات السابقة التي تم وضعها خلال حقبة الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان، على الرغم من أهمية الأخيرة بالطبع في الحفاظ على النص القرآني، وذلك لأن "علامات التشكيل كانت قليلة فيها، وكذلك حروف العلّة والضوابط اللفظية. وبذلك لم يقدّم النصّ الحلّ الذي كان يرمي إليه عثمان وفقًا للتقليد الإسلامي" وفق المؤلف ديروش الذي خَلُص في كتابه إلى أن المصحف الصادر في الحقبة الأموية أعطى ذلك الحلّ للمسلمين.