مشروع التطبيع التركي مع النظام السوري .. الدوافع والمآلات

2024.07.17 | 06:27 دمشق

245333333
+A
حجم الخط
-A

خطت تركيا خطوة جديدة نحو تعميق تحوّل سياستها في سوريا من خلال إعادة إظهار رغبتها بتطبيع العلاقات مع دمشق.

وعلى الرغم من أن مسار الحوار الثنائي انطلق قبل أكثر من عام ونصف برعاية روسية ولم يُحقق بعد نتائج واضحة باستثناء كسر الحاجز النفسي في التواصل بين الجانبين على مستويات مُتعددة، إلاّ أن الزخم الحالي في هذا المسار يستمد قوته من بعض التطورات المُهمة في هذا السياق.

فمن جهة، استعاض النظام عن شرط الجدول الزمني للانسحاب التركي بمطلب الالتزام بالانسحاب وبسيادة سوريا، وهو ما تلقّفته أنقرة بإعلان استعدادها لبحث الانسحاب بمُجرد مُعالجة هواجسها الأمنية وإعادة طوعية وآمنة للاجئين على أراضيها، وتحقيق تسوية سياسية للصراع.

ومن جهة أخرى، تُشير تعليقات الرئيس رجب طيب أردوغان حول عدم وجود نية لتركيا للتدخل في الشؤون الداخلية السورية وقبلها حديث وزير خارجيته هاكان فيدان عن الحاجة لمصالحة بين النظام والمعارضة إلى استعداد أنقرة لتحويل وظيفة علاقتها بالمعارضة من داعم لها إلى وسيط بينها وبين النظام لتحقيق المصالحة.

كذلك، تعمل عودة الرعاية الروسية لمسار الحوار بعد التفاعلات الجديدة الأخيرة بين أنقرة وموسكو، ودخول العراق على خط الوساطة كمُحفّز إضافي لإطلاق مشروع التطبيع.

وتستمد هذه التحولات زخماً من الديناميكيات المتحولة المؤثرة على مشروع التطبيع. فمن جانب، تبرز حاجة تركيا إلى التوصل إلى تعاون مع دمشق في تقويض مشروع "الحكم الذاتي" للوحدات الكردية بالتوازي مع محاولتها تطوير استراتيجيتها في مكافحة الحالة الانفصالية الكردية في شمالي سوريا والعراق من خلال إشراك حكومات البلدين فيها.

إن العقبات التي تعترض مشروع التطبيع عديدة وليس أكثرها تعقيداً مستقبل الوجود العسكري التركي في سوريا.

ومن جانب آخر، يتطلع الأسد إلى المزايا المتصورة للتطبيع مع أنقرة على غرار تعزيز كسر عزلته الإقليمية وتنويع شراكاته مع القوى الفاعلة في المنطقة والحصول على المنافع الاقتصادية في العلاقة الجديدة مع تركيا، فضلاً عن استخدام نفوذ تركيا على المعارضة لإجبارها على الانخراط في مصالحة معه.

علاوة على ذلك، يظهر التطبيع المحتمل بين أنقرة ودمشق مُربحاً للطرفين على صعيد التوصل إلى ترتيب مُسبق لإدارة أي فراغ ينجم عن انسحاب أميركي مُحتمل من سوريا في حال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر تشرين الثاني المقبل.

إن العقبات التي تعترض مشروع التطبيع عديدة وليس أكثرها تعقيداً مستقبل الوجود العسكري التركي في سوريا، فضلاً عن صعوبة مواءمة مصالح الجهات الفاعلة المختلفة في هذه العملية كإيران والولايات المتحدة. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت المزايا المتصورة للتطبيع والديناميكيات المتحولة في الصراع ستتفوق في النهاية على هذه العقبات.

مع ذلك، فإن مثل هذا التطبيع سيكون له آثار كبيرة على الصراع وعلى الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. لقد شهد الصراع منذ اندلاعه في عام 2011 العديد من التحوّلات الكبيرة التي أعادت تشكيله. ويُمكن النظر إلى التدخل العسكري الروسي منتصف العقد الماضي والذي عكس مسار الحرب لصالح دمشق، وقبله تشكيل الولايات المتحدة تحالفاً دولياً ضد تنظيم داعش في سوريا والعراق، وصولاً إلى الانخراط العسكري التركي المباشر في الصراع في عام 2016، ثم انخراط أنقرة في منصة أستانة إلى جانب روسيا وإيران لتهدئة الصراع على أنّها أبرز هذه التحولات.

حقيقة أن تركيا هي الدولة الوحيدة المتبقية التي تدعم المعارضة السورية ولديها وجود عسكري وإداري في شمالي سوريا تُشير إلى الآثار الكبيرة المتوقعة للتطبيع المحتمل على مسار الصراع.

مع ذلك، لم تؤدِ جميعها إلى وضع نهاية للحرب. ويرجع ذلك إلى مجموعة من الأسباب على رأسها أن التحالف القوي الذي أسسته تركيا مع فصائل المعارضة السورية ووجودها العسكري وسيطرتها الإدارية على مساحات واسعة من شمال غربي سوريا، حالت جميعها حتى اليوم دون استعادة النظام السيطرة على آخر معقل للمعارضة.

وعلى الرغم من أن معظم الدول، التي سعت في بدايات الحرب إلى الإطاحة بنظام الأسد من خلال تسليح المعارضة، أحدثت بعد ذلك تحوّلاً كبيراً في سياساتها إن على صعيد التخلي عن هذا الهدف وحصر دورها بمكافحة الإرهاب مثلما فعلت الولايات المتحدة أو على صعيد إعادة تطبيع علاقاتها مع دمشق كما فعلت بعض الدول العربية في السنوات الأخيرة، إلاّ أن التحول التركي في الصراع كان له التأثير الأكثر أهمية على مسار الحرب بعد التدخل العسكري الروسي. فقد كان للتعاون التركي الروسي في الصراع منذ عام 2016 دور حاسم في إحداث تغيير جذري عليه ونقله إلى مرحلة التهدئة بين النظام والمعارضة وصولاً إلى تكريس منطقة خفض التصعيد الرابعة.

وقد أوجد نجاح تجربة منصة أستانة في دفع الصراع نحو حقبة التهدئة آفاقاً أمام تركيا وروسيا لتعميق تعاونهما بشكل أكبر وصولاً إلى مشروع المصالحة بين أنقرة ودمشق.

حقيقة أن تركيا هي الدولة الوحيدة المتبقية التي تدعم المعارضة السورية ولديها وجود عسكري وإداري في شمالي سوريا تُشير إلى الآثار الكبيرة المتوقعة للتطبيع المحتمل على مسار الصراع.

وتُعطي التصريحات التركية في الآونة الأخيرة صورة أكثر وضوحاً عن هذه الآثار المُحتملة التي ستكون على ثلاثة مسارات. الأول يتعلق بالدور الجديد الذي ترسمه تركيا لنفسها كوسيط سلام لإنهاء الحرب.

والثاني يتعلق بالديناميكيات الجديدة التي سيوجدها التطبيع المحتمل في ملف الوحدات الكردية.

والثالث يتعلق بانعكاسات التطبيع على ملف اللاجئين السوريين في تركيا وفي دول الجوار أيضاً. إن مبادرة كل من أنقرة ودمشق إلى تحديد توقّعاتهما العريضة من التطبيع ورفع السقوف التفاوضية هي مُجرد بداية في مسار طويل وشاق ويتطلب تنازلات متبادلة والاستعداد لتحمل التكاليف وصولاً إلى النقطة التي تجعل التطبيع في متناول اليد.