الديناميكيات المؤثرة في مشروع التطبيع بين تركيا والنظام السوري

2024.08.03 | 05:40 دمشق

14777777777777777777
+A
حجم الخط
-A

أعطت الزيارة المفاجئة التي أجراها بشار الأسد إلى موسكو في الرابع والعشرين من يوليو/تموز الماضي انطباعاً إضافياً برغبة روسيا في دفع مشروع التطبيع بين أنقرة ودمشق.

صحيح أن هذا الملف لم يتم التطرّق له علناً في التصريحات العلنية والبيانات التي صدرت عن الطرفين، إلا أنه كان حاضراً بالتأكيد على الطاولة. وحتى قبل الزيارة، كانت تصريحات كل من الأسد والرئيس رجب طيب أردوغان عن التطبيع المُحتمل تُشير على الأقل إلى أنهما يُوليان في هذه الفترة أهمية للفكرة أكثر من أي وقت مضى. ومن الواضح أن الظروف اللازمة لتدشين مشروع التطبيع لم تنضج كاملة بعد، لكنّ مجرد الحديث عن التطبيع يُمثل تقدماً في عملية الحوار التي انطلقت برعاية روسية قبل أكثر من عام ونصف.

أتحدث عن التطبيع كمشروع لأنه سيكون مساراً طويلاً ومُعقداً ومن غير المتصور بأي حال أن يؤدي لقاء مُحتمل بين أردوغان والأسد إلى التطبيع الفوري.

وأي لقاء من هذا القبيل سيكون مُصمماً بدرجة رئيسية لتدشين هذه العملية. هناك ثلاثة عوامل رئيسية ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند تقييم الجهود الحالية لمشروع التطبيع. الأول، استحالة تحقيق تقدّم في هذا المسار قبل التوصّل إلى تفاهم على المبادئ العامة للتطبيع، وهي المرحلة الأكثر أهمية في هذا المسار. وقد سارع الأسد إلى طرح تصوراته العريضة لهذه المبادئ والمتمثلة في عنصرين رئيسيين هما: تحديد الانسحاب التركي من سوريا كأساس لعودة طبيعية للعلاقات، والعودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل اندلاع الصراع في عام 2011، وما يعنيه ذلك من ربط التطبيع بإنهاء الحرب على أساس الإقرار بأن الأسد انتصر فيها وليس على أساس الحل السياسي من منظور قرار مجلس الأمن الدولي 2254.

إن رغبة موسكو بتحقيق التطبيع تبدو واضحة. مع ذلك، يظهر الموقف الإيراني كعقبة مُحتملة.

مع ذلك، لا يجب النظر إلى هذا السقف التفاوضي المرتفع للنظام على أنه ثابت وغير قابل للانخفاض لاعتبارين اثنين، أوّلهما أن رهن التطبيع بإنهاء الصراع لا يعني سوى انتظار المزيد من الوقت الطويل، وثانيهما أن كلاً من الأسد وأردوغان يتطلع إلى المزايا المباشرة المختلفة للتطبيع بمعزل عن مسألة الحل السياسي الذي لا يُمكن تصوره بأي حال دون انخراط إقليمي ودولي واسعين فيه.

وهنا تبرز أهمية المسار التفاوضي الجديد المرتقب على المستويات الأمنية والاستخباراتية للتوصل إلى تفاهم على المبادئ العريضة للتطبيع، والتي ستُركز على الخطوات العملية المتوازية التي سيتعين على كل طرف القيام بها للوصول إلى عودة طبيعية للعلاقات في نهاية المطاف.

أما العامل الثاني، فيتمثل في مواقف الفاعلين الإقليميين والدوليين المؤثرين في مشروع التطبيع مثل روسيا وإيران والولايات المتحدة. إن رغبة موسكو بتحقيق التطبيع تبدو واضحة. مع ذلك، يظهر الموقف الإيراني كعقبة مُحتملة. منذ انطلاق مسار الحوار، برزت الحاجة إلى إشراك إيران في هذه العملية ونُظر إلى توسيع الآلية الثلاثية إلى رباعية على أنه إقرار من جانب روسيا وتركيا بأن تهميش إيران في هذه العملية يُقوض إلى حد كبير من فرص نجاحها. على الرغم من أن طهران أظهرت مراراً دعمها للتطبيع وعرضت خدماتها كوسيط، إلا أن هواجسها من مشروع التطبيع نابعة في الغالب من انعكاساته على حضورها القوي في سوريا وعلى منافستها الإقليمية مع تركيا وعلى التقاطعات الجيوسياسية المتسعة بين تركيا وروسيا.

رغم ذلك، فإن النظر إلى موقف طهران كعقبة رئيسية لمشروع التطبيع يتجاهل ثلاث حقائق. الأولى، أن الشروط التي يطرحها الأسد تنسجم في الواقع مع مقاربة كل من روسيا وإيران للنتائج التي ينبغي أن يؤدي إليها التطبيع. والثانية، أن الأسد يُصمم موقفه من التطبيع بالتنسيق مع موسكو وطهران معاً للحصول على أكبر قدر من التنازلات من تركيا على صعيد دورها الجديد في الصراع بعد التطبيع. والثالثة، أن المنافسة القائمة بين روسيا وإيران في سوريا لم - ولن - تدفعهما بأي حال إلى الوقوف على طرفي نقيض في مقاربة نظرتهما إلى دور تركيا لاعتبارات مُتعددة.

إن قدرة تركيا والنظام على التوصل إلى تفاهم على المبادئ العامة للتطبيع مرهونة بالدور الذي ستلعبه إيران وبحجم التأثير الذي سيتعين على موسكو ممارسته على الأطراف المنخرطة في هذه العملية.

ويتمثل العامل الثالث بموقف الولايات المتحدة. وكما هو واضح، فإن واشنطن تُعارض مشروع التطبيع لأنها تُدرك أنه مُصمم أساساً للضغط على حليفتها الوحدات الكردية ولتقويض تأثيرها في الملف السوري. لكن استمرار الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل مثار شك مع تصاعد احتمال عودة الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب إلى السلطة. ويُمكن النظر إلى هذا الاحتمال على أنه مُحفز قوي لتحريك مشروع التطبيع في الوقت الراهن. ويبدو أن الوحدات الكردية بدأت تتعامل أيضاً مع هذا الاحتمال من خلال تراجعها عن إجراء انتخابات المجالس المحلية في الإدارة الذاتية في أغسطس/آب وإعلان انفتاحها على الحوار مع النظام وتركيا. وتعتقد كل من أنقرة وموسكو أن الفترة المتبقية للانتخابات الرئاسية فرصة سانحة لتدشين مشروع التطبيع.

في ضوء ذلك، فإنه يبدو من غير المُمكن تدشين مشروع التطبيع دون تحرك ديناميكيات العوامل الثلاثة المذكورة مُجتمعة بما يخدم هذا المشروع. وحتى لو عُقدت جولة جديدة من المفاوضات الثنائية على مستويات أمنية واستخباراتية في بغداد أو في أي مكان آخر، فإن قدرة تركيا والنظام على التوصل إلى تفاهم على المبادئ العامة للتطبيع مرهونة بالدور الذي ستلعبه إيران وبحجم التأثير الذي سيتعين على موسكو ممارسته على الأطراف المنخرطة في هذه العملية. كما من غير المتصور أن يُعقد لقاء بين أردوغان والأسد قبل التوصل إلى تفاهم على مبادئ التطبيع.