لثلاثة عقود، أشرف حسن نصر الله على تطوير حزب الله من جماعة مُسلحة متواضعة أُسست بهدف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوبي لبنان إلى تنظيم يمتلك قدرات عسكرية تتفوق على الجيش اللبناني ويخوض حروباً في الخارج بالوكالة عن إيران وحزب سياسي مُهيمن على الحياة السياسية اللبنانية وصانع لرؤساء لبنان وحكوماته.
إن اغتيال إسرائيل لنصر الله الأسبوع الماضي وتصفيتها لجيل كامل من القادة العسكريين الكبار في الحزب لن يؤديا على الفور أو في المستقبل المنظور إلى انهياره كتنظيم مُسلح وكحزب سياسي لبناني قوي، لكنّهما قد يكونان بداية لنهاية أسطورة القوة التي صنعها نصر الله.
حقيقة أن القوة العسكرية التي راكمها الحزب منذ تأسيسه لم يصلها أي تنظيم عسكري غير حكومي في العالم، ونجاحه في دحر الاحتلال الإسرائيلي عن لبنان مطلع الألفية الثالثة وخروجه سالماً من حرب ثانية مع إسرائيل في عام 2006 وتورطه العسكري، الذي أسهم في عكس مسار الحرب لصالح نظام الأسد في سوريا، ومساهمته القوية في تطوير الخبرات العسكرية والتنظيمية لجماعات شيعية مسلحة في دول عربية، جعلت منه حالة استثنائية في العمل الحزبي المُسلح الداخلي والعابر للحدود. لكنّ هذه الحالة أصبحت مُهددة اليوم على نحو خطير بعد اغتيال نصر الله وتورط الحزب في حرب جلبت له حتى الآن تكاليف تفوق من حيث الخسائر على مستوى القيادة العليا والأفراد والأصول العسكرية تكاليف الحربين الأولى والثانية مع إسرائيل وتكاليف تورطه في الصراع السوري.
بالنسبة لفئة غير قليلة من اللبنانيين، فإن زعامة نصر الله القوية جلبت مشكلات وأزمات لبلدهم بقدر أكبر بكثير من المكاسب لأسباب مُتعددة.
حتى انتهاء الحرب الراهنة، التي قد تستمر طويلاً، سيكون من الصعب توقّع آثارها بوضوح على حزب الله ومستقبل دوره اللبناني والإقليمي. لكن اغتيال نصر الله حرم الحزب من شخصية كاريزمية استطاعت استقطاب القسم الأكبر من شيعة لبنان، الذين ينظرون إليه على أنه حوّلهم من طائفة مُهمشة في السياسة اللبنانية إلى طائفة قوية أصبح التحالف معها بوابة لأحزاب سياسية من طوائف أخرى من أجل الوصول إلى السلطة. كما أن تأثير زعامة نصر الله تجاوز لبنان وأصبحت نموذجاً لقيادات حزبية شيعية أخرى في العالم العربي. ومن غير المتصور أن يتمكن خليفة نصر الله المقبل في زعامة الحزب من ملء فراغ اغتياله من حيث التأثير القيادي إن على مستوى شيعة لبنان أو على مستوى الحالة الشيعية التي ترعاها إيران في المنطقة.
بالنسبة لفئة غير قليلة من اللبنانيين، فإن زعامة نصر الله القوية جلبت مشكلات وأزمات لبلدهم بقدر أكبر بكثير من المكاسب لأسباب مُتعددة ليس أكثرها أهمية أن أسطورة القوة التي بناها كانت من بين عوامل حالت دون قيام دولة قادرة على بسط سلطتها على كل أراضيها وعلى امتلاك قرار الحرب والسلم. وليس أقلها أهمية توريط لبنان في عداء مع محيطه العربي بسبب تحويل حزب الله إلى وكيل لأنشطة إيران المزعزعة لاستقرار الدول العربية والمغذية للصراعات المذهبية فيها. وحتى في الحالة الشيعية اللبنانية، فإن زعامة نصر الله قوّضت من قدرة حليفه نبيه بري زعيم حركة أمل على استقطاب الفئة الأكبر من الشيعة. لدى كثير من خصوم حزب الله في الداخل ممن أظهروا علانية حزنهم على اغتيال نصر الله سببان لفعل ذلك، أوّلهما أن إسرائيل هي من قتلته وثانيهما قلقهم من حرب وُرّط فيها لبنان وتجلب مخاطر كبيرة عليه.
وما يعني كثيراً من اللبنانيين بعد اغتيال نصر الله هو إخراج بلدهم الضعيف والمُستضعف من حرب صمّمتها أطرافها من أجل تغيير الشرق الأوسط ولا يبدو لبنان فيها سوى وقود فيها.
إن إيران، التي كان لها الفضل الأكبر في بناء هذه الأسطورة تواجه الآن مخاطر تُشكل تهديداً وجودياً لنظامها.
إن حقيقة أن التجربة اللبنانية الممتلئة بالغطرسة لحزب الله في العقدين الأخيرين وأن من يواجهه في هذه الحرب هو إسرائيل، التي تركت إرثاً سوداوياً خلال احتلالها الطويل لجنوبي لبنان واجتياح بيروت في عام 1982 وحرب تموز عام 2006، تجعل من الصعب على خصوم الحزب تحديد تفضيلاتهم بوضوح رغم الإجماع على رفض عدوانية إسرائيل. مع ذلك، لن يكون مفاجئاً القول إن خصوم الحزب في الداخل لم يعودوا يرون سبيلاً لتأسيس دولة قوية وتحييدها عن صراعات الآخرين سوى انهيار فائض القوة الذي بناه نصر الله. ولا يعني ذلك أن يُفضّلوا أن تنتصر إسرائيل في هذه الحرب بقدر ما يُفضّلون أن تدفع نتائجها حزب الله إلى التخلي عن غطرسته في الداخل والتحول إلى حزب لبناني كمثل الأحزاب الأخرى ويُغلب هويته الوطنية على هويته الإقليمية كجزء من ولاية الفقية ومشروع الثورة الإسلامية الإيرانية.
إن أي غزو بري إسرائيلي للبنان سواء كان محدوداً أو واسعاً سيُشكل اختباراً حاسماً لمدى قدرة حزب الله على الصمود بعد الضربات الكبيرة التي تعرض لها. لكنّه في المقابل سيمنحه فرصة للعودة إلى النمط القديم من صراعه مع إسرائيل بقتالها على الأرض كقوة احتلال من أجل إعادة ترميم قدراته واستعادة ثقة الحاضنة الشعبية به كقوة لا تُقهر. مع ذلك، فإن الظروف التي ساعدته سابقاً في بناء أسطورة القوة تختلف الآن. فمن جانب، لم تعد فئة كثيرة من اللبنانيين تنظر له كقوة مقاومة وأن بقاء سلاحه ضرورياً. ومن جانب آخر، فإن إيران، التي كان لها الفضل الأكبر في بناء هذه الأسطورة تواجه الآن مخاطر تُشكل تهديداً وجودياً لنظامها. ولم تعد قادرة على التحرك إقليمياً بالكيفية التي قامت بها في العقود الأربعة الماضية. وسوريا التي كان لها دور كبير في تطوير تسليح حزب الله، أصبحت اليوم أضعف بكثير من القيام بذلك مرة أخرى وتنشط فيها إسرائيل بأريحية لقطع خطوط الإمدادات العسكرية للحزب.