تعتمد مدينة هارمانلي على صناعة التبغ، لكنها تطورت في ظل الشيوعية عند افتتاح مصانع المنسوجات والإلكترونيات ومنتجات اللحم والخشب، وكغيرها من المدن الصغيرة في الاتحاد السوفييتي، تعرضت هارمانلي لضغط حتى تقدم أكثر من ذلك، ولذلك سقطت مع سقوط الشيوعية.
ما تزال التماثيل والمنحوتات التي تعود للحقبة الشيوعية قائمة في تلك المدينة، بيد أن هذه المدينة الواقعة وسط الجنوب البلغاري بين بلوفديف والحدود التركية أضحت اليوم شبح ما كانت عليه في السابق، فقد تراجعت أهميتها، وطوال العقد الماضي، أصبحت مقراً للتوتر والانقسام، إذ أصبح غرباء يسيرون في شوارعها بجانب نهر ميريتزا الحزين، بيد أن أحداً منهم لم يتخيل أن تنتهي به الأمور في هذه المدينة.
مخيم هارمانلي كله للسوريين
في عام 2013، عندما كانت الحكومة البلغارية تفتش عن موقع لتبني عليه مخيماً جديداً وكبيراً للاجئين، استقر رأيها على هارمانلي. في تلك الفترة، كانت الأسرّة في المخيم والتي وصل عددها إلى 1500 تعتبر كافية وزيادة بالنسبة لعدد طالبي اللجوء الذين عبروا من تركيا.
وبعد مرور عقد من الزمن أصبحت الظروف في المخيم لا تطاق، بحسب ما أخبرنا من يعيشون فيه، إذ يقول شاب عمره 27 عاماً، وهو خريج قسم الأدب الإنكليزي، لكنه فر بسبب الحرب الأهلية الدائرة في سوريا منذ عام 2011: "لا توجد وسادة، فقط غطاء، والأسرة قذرة، كما المراحيض، ثم إنهم يقدمون لنا وجبتين في اليوم، لكن معظمنا لا يتناول تلك الوجبات لأنها رديئة جداً".
تحدثت منظمات حقوقية عن انتشار مراتب متسخة وشيوع بق الفراش، ليس فقط في هارمانلي، بل في مخيمات ومراكز استقبال أخرى مخصصة للمهاجرين واللاجئين الفارين من الحرب والقمع والفقر في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، على أمل بدء حياة جديدة في أوروبا الغربية. ومنذ شهر كانون الأول من العام الفائت، أصبح جميع من يقيمون في مخيم هارمانلي سوريين، بعدما قتلت الحرب أكثر من نصف مليون نسمة من أبناء الشعب السوري.
كتبت إيليانا سافوفا من لجنة هيلسينكي البلغارية في قاعدة بيانات معلومات طالبي اللجوء السنوية التي نشرت في نيسان من عام 2023 بأن أعظم الأمور التي تسبب لهم القلق تتمثل في تأمين طالبي اللجوء الذين جرى استقبالهم في تلك المراكز، وتحدثت عن وجود مهربين وتجار مخدرات وعاملين في مجال تجارة الجنس داخل المخيم، إذ وصل هؤلاء إلى هناك من دون أي تدخل لقوات الأمن الخاصة التي تدير أمور المخيم.
كما أسهمت أخبار العنف بين طالبي اللجوء سواء داخل المخيم وخارجه في زيادة التوتر مع أهالي هارمانلي الذين صاروا يحتجون ضد فتح أبواب المخيم لهؤلاء الناس.
بلغاريا كضحية شقاق سياسي
ولكن في الوقت الذي ردت فيه السلطات عبر زيادة القيود المفروضة على حرية التنقل بالنسبة لمن يقيمون في المخيم، يخبرنا ناشطون بأن تلك الحالات ليست مستغربة في ظل الظروف التي يعيشها الناس طوال أسابيع أو حتى أشهر.
يخبرنا عما يحدث ناشط يعمل لدى منظمة إغاثية إيطالية أمضى صيفه في هارمانلي عام 2023، فيقول: "يعتبر هذا النوع من العنيف طبيعياً بشكل أو بآخر، إذ هنالك 1400 شخص في المخيم، وهؤلاء مجبرون على البقاء معاً في ظل ظروف سيئة".
وقد اشترط هذا الناشط عدم ذكر اسمه، إلا أن غيره ذكروا بأنه لا أحد يرد عند الاتصال بالرقم 112 وهو رقم الطوارئ في البلد، كما لا ترسل سيارات إسعاف للمخيم عندما يصاب أحد المهاجرين أو اللاجئين أثناء عبورهم للحدود المسيجة بالخشب، ناهيك عن تفشي الأمراض الجلدية في المخيم.
ولكن بالنسبة لصناع القرار، يعتبر مخيم هارمانلي مجرد قصة هامشية مؤسفة ضمن الصورة الأكبر لانضمام بلغاريا الوشيك ولو بشكل جزئي لمنطقة شنغن التي لا تحتاج إلى جواز سفر في أوروبا، إذ حتى تصل إلى هنا، عليها أن تثبت بأنها قادرة على تأمين حدودها وتخليصها من الفساد بما يرضي النمسا وهولندا بما أنهما علقتا انضمام بلغاريا ورومانيا بسبب مخاوف تتصل بقضية الهجرة.
عن ذلك يحدثنا أتاناز روسيف وهو باحث في مركز دراسات الديمقراطية فيقول: "إن بلغاريا أشبه بضحية في هذا الشقاق السياسي الكبير الذي حدث على المستوى الأوروبي" ما بين الدول المحافظة وبقية الدول التي تتسم بمواقف أشد تقدمية تجاه قضية الهجرة، ويتابع بالقول: "من جهة يتطلب ذلك توفير قيود ذات كفاءة وفعالية على الحدود، وبالمقابل، يفترض بنا أن نسمح لكل من يتقدم بطلب لجوء بدخول بلدنا"، وفي المنتصف يقف المهربون فيبتزون المهاجرين واللاجئين ويجندونهم.
الخوف من المجهول
تسعة أشهر أمضاها في مخيم هارمانلي شخص يدعى حميد خوشسيار وهو خريج فيزياء كان في السابق يعمل بائعاً للبرمجيات في إيران، وذلك قبل أن يقرر أن يستقر في تلك المدينة عام 2019، وعنها يخبرنا بأن كثيراً من الأمور قد تغيرت خلال العام الفائت، ويضيف: "بعد الانتخابات التركية التي أجريت خلال أيار الماضي، زاد العنف على الحدود التركية-البلغارية" وشرح كيف يتفاوت العنف من منطقة لمنطقة بحسب شدة رجال الشرطة الذين يجري فرزهم إلى هناك، ويتابع قائلاً: "لذلك توفي كثيرون على الطريق".
حالياً، يعتبر خوشسيار الإيراني الوحيد الذي حصل على وضع الحماية الذي يعطى للاجئ في بلغاريا من خلال عملية طويلة وملتوية تصدرت عناوين الصحف في كانون الأول عندما ورد خبر عن موسيقي إيراني عاش في صوفيا خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية لكنه اليوم مهدد بالترحيل بعدما رفض طلبه للحصول على الحماية مرات عديدة.
يخبرنا خوشسيار الذي يعمل لدى منظمة إنسانية محلية تعرف باسم Mission Wings ويدير مركزاً صغيراً للجالية في هارمانلي بأن الخوف هو أصل الاحتجاجات التي خرجت ضد المخيم، وعلق على ذلك بقوله: "يخشى الناس ما لا يعرفونه، وهذا هو السبب الرئيسي لقلقهم حيال الأوضاع في المخيم. إذ يتفوه بعض القوميين بأشياء مسيئة، لكن المواطنين يعاملونني بطريقة عادية، ولكن إن تعين علي إخراج نفسي من الصورة لأتحدث عن الأمور بشكل عام، فسأقول إن الأهالي واللاجئين يتشاركون المساحة نفسها حتى بعد تقسيمها، أي أنهم يعبرون الشوارع والحدائق نفسها، لكنهم نادراً ما يتواصلون مع بعضهم، والصراعات تحدث في الغالب بين اللاجئين، وهذا شيء يعتبر عنصراً جديداً في عام 2023، كما أن العنف يحدث داخل المخيم وخارجه".
الاحتجاجات تعود من جديد
في أواخر عام 2022، فتحت وكالة الدولة لشؤون اللاجئين تحقيقاً بخصوص منظمة Mission Wings إثر شكوك بتورطها في الاتجار بالبشر، ولهذا خضع خوشسيار للاستجواب كما جرى تفتيش مركز الجالية الذي يعمل فيه، ولم يتمخض كل ذلك عن أي شيء، ثم أثنت لجنة هيلسينكي البغارية على Mission Wings وعلمها في مجال توزيع الإغاثة على المهاجرين واللاجئين.
ولكن في هارمانلي تسببت سلسلة من حوادث العنف التي تورط بها طالبو لجوء في إقلاق راحة الأهالي وإشعال فتيل الاحتجاجات من جديد، إذ في أيار الماضي، وقعت مهاترة بين ثلاثة سوريين وانتهت بحادثة طعن، وفي تموز قتل شخص طعناً داخل المخيم.
وفي مظاهرة احتجاجية خرجت في أواخر أيلول الماضي وحضرها بضعة مئات من الناس، طالب المتظاهرون بإغلاق المخيم، في حين دعا آخرون لتشديد القيود على المقيمين فيه، ثم خرجت مظاهرة مماثلة أخرى في أواخر تشرين الأول.
وفي مقابلة أجريت مع ماريانا توشيفا، وهي مديرة وكالة الدولة المعنية باللاجئين، عقب المظاهرة التي خرجت في أيلول الماضي، ذكرت بأنه: "إن استوعب المركز 500 شخص فمن الأسهل على الأهالي تقبل وجوده".
وخلال شهر كانون الأول، قلصت الوكالة عدد الساعات التي يمكن للاجئين دخول المخيم وخروجه خلالها، فأنقصتها ساعة واحدة، ما يعني بأن التوقيت أصبح الآن من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة عصراً في الشتاء ومن الساعة التاسعة صباحاً حتى الثامنة ليلاً في الصيف. وخلال تلك الفترة أصبح المخيم يعمل بقدرة استيعابية تعادل 86% من إمكانياته، أي أنه يستضيف نحو 1436 شخصاً، وجميعهم سوريون.
وبحلول شهر شباط، أعلن وزير الداخلية البلغاري، كالين ستويانوف، بأن هذا العدد وصل إلى 1146، واعترفت وكالة اللاجئين في بلغاريا بأن مخيمي أوفتشا كوبيل وفرازديبنا الموجودين في العاصمة صوفيا أضحيا يعانيان من ازدحام شديد.
في حين ذكرت ممثلة الوكالة، إيرينا دانيفا، في جواب خطي: "تعد ظروف مراكز الاستقبال من أكبر التحديات ومصادر القلق، ولهذا نتطلع إلى توفير المال لنجري المزيد من أعمال الصيانة والإصلاح للوحدات التي يقيم فيها طالبو اللجوء".
هذا وستصبح القيود أشد بالنسبة لحيازة السلاح على مدخل مركز هارمانلي، حيث تم تعزيز قوات الأمن هناك، بيد أن دانيفا ذكرت بأنهم يعانون من شح في الأموال، وقالت: "لم يسمح للوكالة بالحصول على التمويل من خلال صناديق وآليات مالية أخرى، وخلال هذه المرحلة لا يتوفر لدينا أي مصدر إضافي للتمويل خارج ميزانية الدولة".
الأشد ضعفاً هو المستهدف
في مطلع شهر تشرين الثاني من العام الفائت، وبعد مرور شهر على إجراء مقابلة معه، تعرض خوشسيار لهجوم من قبل أحد السكارى ثم جرى إلقاء القبض على الجاني.
وعند التواصل معه للحديث عما جرى، ألقى خوشسيار اللوم على التوتر الذي تصاعد بسبب أحد السياسيين المحليين ورفض أن يسميه، وذلك لأن الأخير استخدم قضية اللاجئين ليشدد قبضته على السلطة، ويضيف خوشسيار: "إن لم تسيطر السلطات المحلية على الوضع الآن، فسيزداد العنف مستقبلاً، وسيتعرض اللاجئون لمزيد من الهجمات".
وأضاف بأن مناخ الحصانة يغذي عنف الشرطة على الحدود وكذلك العنف بين اللاجئين، وقال: "في النهاية، تبحث المفترسات عن فريسة والأشد ضعفاً يتحول لهدف عادة"، ونبه إلى أن هذه الفئة المستضعفة تشمل القاصرين واليافعين.
في آب من عام 2022، حكم على سوري عمره 22 عاماً بالسجن لمدة عام وعشرة أشهر بعد اصطدام حافلة كان يقودها وعلى متنها 47 سورياً آخرين بسيارة شرطة في مدينة بورغاس الساحلية، ما أسفر عن مقتل ضابطين، كما أدين سوريان آخران بهذه القضية.
وخلال العام الماضي، وتحديداً في العاشر من تشرين الأول، قتل سوري يتراوح عمره ما بين 17-19 في وضح النهار في منطقة كرانسا بوليانا بالعاصمة صوفيا، ورجحت الشرطة سبب مقتله للاتجار بالبشر.
وبحسب ما أورده المجلس الأوروبي المعني باللاجئين والمنفيين، فقد ارتفعت أعداد من يعبرون إلى بلغاريا بشكل غير نظامي من 10799 في عام 2021 إلى 16700 في عام 2022، في حين ذكرت وزارة الداخلية البلغارية بأنه خلال الفترة ما بين شهري كانون الثاني وتشرين الثاني من عام 2023 منعت شرطة الحدود البلغارية 170 ألف حالة عبور غير شرعية، أي بنسبة زيادة تعادل 24% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022.
وتتسم عمليات الصد بالعنف، ولهذا أصبحت عملية العبور محفوفة بالمخاطر.
في تحقيق مشترك نشر في 7 من كانون الأول، ورد بأن 93 مهاجراً ولاجئاً عثر عليهم وقد فارقوا الحياة ضمن الأراضي البلغارية خلال العامين المنصرمين.
هذا وتتعرض بلغاريا لضغط حتى تثبت قدرتها على تأمين حدودها لتكسب موافقة النمسا وهولندا على انضمامها لمنطقة شينغن، وقد حصلت على عضوية جزئية في الاتحاد الأوروبي خلال العام الماضي، إذ سترفع القيود عن الحدود الجوية والبحرية لدى بلغاريا ورومانيا بنهاية شهر آذار، بيد أن الانضمام لا يشمل حدودهما البرية.
المصدر: Balkan Insight