إن في قبائل العرب وديارهم، آلاف المطربين وآلاف الممثلين وآلاف الشعراء وآلاف الكتاب وأبطال كرة القدم والسلة والطائرة واليد والماء ولاعبي البوكس والجودو والعدائين والجنرالات أصحاب الأوسمة، لكن ليس عندهم سوى ثلاثة راود فضاء أو أربعة، بل ليس على هذا الكوكب المنكوب رواد فضاء كثر، هم قلة ويعدون على الأصابع، وليست كل الدول قادرة على ريادة الفضاء والنفاذ من أقطار السماوات والأرض، بل إن بعض الدول ذات الشوكة النووية والملعقة الذرية، والتي لها حق العقد والنقض، ليس لها حظ أو نصيب في ريادة الفضاء. هم أربعة رواد فضاء عرب كما قلنا:
سعودي راد الفضاء بالتعاون مع الحليف الأميركي وقوة المال.
ورائد الفضاء السوري محمد فارس، بالتعاون مع الحليف الاتحاد السوفيتي.
ورائدا الفضاء الإماراتيان سلطان النيادي وهزاع المنصوري بالتعاون مع الحليف الأميركي أيضًا.
لكن قصة محمد فارس مختلفة عن قصصهم، هي قصة تروى، وكان منتدبًا مع خمسين طيارًا سوريًا، أوفدوا للاتحاد السوفيتي للنفاذ من أقطار السماوات والأرض، فاختار السوفيات منهم اثنين كما في لعبة الحبار، هما منير حبيب ومحمد فارس.
لم يكن الروس معنيين كثيرًا بالمذاهب، كما لا يعني لمحمد فارس قولك له: إن جاكي شان بوذي الدين وبروسلي شنتوي المذهب. دار بين المرشحين صراع شديد، كصراع قابيل وهابيل، وكان قربان هابيلنا علمه وإخلاصه، دار بينهما صراع نهايات كما في أفلام السينما حين يصارع البطل رئيس العصابة في ختام الفيلم، لكن هابيلنا نجا من القتل، وعاد إلى الأرض سليمًا صحيحًا، ليروي لنا الحكاية، فانتقل الصراع بينهما من الخصم البديل إلى الخصم الأصيل، فقد كان منير حبيب "دوبليرًا" لحافظ الأسد.
كان محمد فارس ثانيًا فصار الأول، فقد بذّ الثاني الأولَ المزكّى من القيادة السورية في كل الاختبارات: العلمية والطبية والهندسية، وعدد ساعات الطيران، والصحة وضغط الدم ومرونة العضلات وسلامة الكبد والقدرة على السباحة والغوص.
هي قصة تكوين، أو قصة من سفر التكوين، فقد كان الأسد يريد المباهاة والفخر والاعتذار عن خسارة الجولان، أو على الأصح الاستغفار عن رشوة الجولان التي قدمها قربانًا للمنصب الكبير، وكان يريد تعويضها بغزو الفضاء، وكان قد أرسل الآلاف من رواد الفضاء السوريين إلى كوكب تدمر الواقع خارج درب التبانة، فسبحوا في الظلام أحقابا، واكتشفوا قوانين السياسة والصراع والنفس والحب والحرية وتفاعل المعادن والاستشعار عن بعد، وعاد بعضهم بسلام إلى الأرض بعد رحلة طويلة أطول من رحلة أوليس في ملحمة الأوديسة.
قصة ريادة الفضاء هي قصة مركبة الفضاء، فالفرس في الرحلة أهم من الفارس، أو هي من الفارس، لكنها مهملة في هذه الحكاية. وكان محمد فارس ثانيًا فصار الأول، فقد بزّ الثاني الأولَ المزكّى من القيادة السورية في كل الاختبارات: العلمية والطبية والهندسية، وعدد ساعات الطيران، والصحة وضغط الدم ومرونة العضلات وسلامة الكبد والقدرة على السباحة والغوص. لم يرد شيء في التقارير العلمية الرسمية عن أخلاقهما وسلامة النفس والطويّة وقياسات الكرم والصدق والمروءة، فقد كان مدلل القيادة السورية حقودًا لئيمًا، قلبه فيه دخل، وطويّته فيها خبث، وقد حاول قتل زميل الرحلة مرات، وعرف الروس بمحاولات القتل، فذعروا، ولم يقاضوا المجرم، فهو في بعثة رئاسية حكومية لها حصانة، وليس لهم ولاية عليها، ولا يريدون أن يفسدوا الصداقة السورية الروسية، وقالوا لمحمد فارس مواسين بعد أن عزلوه عن زميله وقايةً له وصيانة: نحن نتنافس أيضا ونتبارز ونتخاصم فهي غرائز بشرية، لكن لا يبلغ بنا الحقد هذا المبلغ الدموي!
وبعد سنتين من التدريب، أرسل الروس نتائج اختبارات الرحلة المنتظرة، وأخبروا الرئيس أن محمد فارس هو الفارس، وهو الأولى بالريادة، وأنه أفرس للرحلة وأنسب؛ صحة وعلمًا، وعزمًا وقدمًا، ويخشى على منير الذي أوصى به رجال الرئيس إن صعد إلى السماء أن يموت بجلطة فيفسد الرحلة، وتتحول إلى جنازة فضائية.
توصيتنا هي تزكية محمد فارس رائدًا للفضاء والأمر لكم سيادة الرئيس.
أسقط في يد الرئيس، ووجد نفسه في حيص بيص: إذا أمر بترشيح ابن مذهبه سيصير مضغة في أفواه السوفيات، وقد يقع لصاحبه مكروه، فتصير الرحلة فضيحة عالمية.
وهكذا رادَ محمد فارس الفضاء بعد أن أوصيَ بحفظ ما يجب حفظه من أناشيد وخطب في حضرة الرئيس، كما يفعل معلمو الطلائع لأطفال الطلائع، لكن فارس كان فارسًا، فليس كومبارسًا في مسرحية من مسرحيات شبيبة الثورة، وحانت لحظة الحقيقة، لحظة الخطاب، فأفسد الحفلة على الرئيس، لم يكن إفسادًا مقصودًا، كل ما قاله نطق لفظ الجلالة وهو يخاطب الرئيس، فقال: الله أكبر، فغضب الرئيس وحقد عليه، مع أنَّ أشهر خطبة للرئيس تبدأ بلفظ الله أكبر، وهي التي قال فيها: الله أكبر "مازا" أرى.
بعض الفكهاء من أصحاب المُلح قالوا إنه كان يسكر ورأى "مازه" السكرة، فقال ما قال.
لم تكن صيحة محمد فارس بدعًا من القول.
وإن أشهر جملة أوروبية على الإطلاق هي (أوه ماي غاد)، وفي ولاية ألمانية اسمها ساكسن يتبادل أهلها التحايا قائلين: الله أكبر، فيرد المُحيا على المحيي: "غروس غاد".
والرائد لا يكذب أهله، ثم إنَّ الرئيس لامه، عندما التقى به على التحية، فدافع عنها غير معتذر، فازداد حقد الرئيس عليه، قال محمد فارس له: يا سيادة الرئيس، إن الروس ملحدون ومؤمنون يحترمون عقائد الضيوف، فأمر به الرئيس، فعزل، وأبعد، و"نُسّق". التنسيق لفظًا يعني التنظيم والصف، لكنه في سوريا الأسد أمسى يعني الإهمال والإقصاء والإبعاد والتهميش والنبذ!
كان الأسد قد نقل مرض سوريا من الأرض إلى السماء، وكانت جريمة رائد الفضاء أنه قال جملة أقل من جملة جاليلو الهامسة: إنها تدور.
والأنكى من هذا، والأمرُّ، والأدق رقبة، أنَّ زميله منير حبيب الذي حاول قتله، قد كُرّم، وسميت باسمه شوارع وساحات، واحدة منها في منتصف حمص مقابل البريد، مع أنه لم يرِد سوى بلاد "الناتاشات". كانت جناية محمد الفارس أنه مثل الغلام البرئ في حكاية ثياب الإمبراطور، بل أقل منه بكثير، فهو لم يشر حتى إلى عري الرئيس، بل إنه أجله وأعظمه ، لكن الرئيس شعر بالعار لأنّ البرئ قال: الله أكبر.
أجرى محمد فارس تجارب للجمعية العلمية السورية في هذه الرحلة معدة من قبل الهيئة السورية العامة للاستشعار عن بعد، وعددها 13 تجربة في عدة مجالات هي كالتالي:
الطب الفضائي: متضمنة تخطيط القلب والدورة الدموية والرياضة وآلية التكيف، والتغيرات في كتلة العضلات وتوازن الجسم واختلاف الرؤية.
التعدين الفضائي: متضمنة أنصاف النواقل، خليط معدني جديد وبلورات جديدة للغلاف الجوي للأرض، متضمنة ديناميكية الغلاف الجوي والإشعاع الشمسي.
مراقبة الموارد الأرضية: متضمنة تطبيقات الاستشعار عن بعد في مجال الزراعة والجيولوجيا والهيدرولوجيا والهيدروجيولوجيا والبيئة، لكن السوريين لم يستفيدوا من تجاربه شيئًا، لأنَّ الرئيس لم يكن غرضه علما، لم يكن يريد سوى أن يسمع اسمه من السماء.
الخلاصة: كان الأسد قد نقل مرض سوريا من الأرض إلى السماء، وكانت جريمة رائد الفضاء أنه قال جملة أقل من جملة جاليلو الهامسة: إنها تدور.