هكذا كنا نحاور الرئيس ويحاورنا

2024.07.07 | 05:42 دمشق

هكذا كنا نحاور الرئيس ويحارونا
+A
حجم الخط
-A

ليس لدى الرئيس من يراسله أو يسأله.

السؤال امتحان، والامتحان حرب. لم يكن أحد يستطيع أن يمتحن الرئيس، الفحص محنة. يقال إنّ السؤال ذكر، والجواب أنثى، الرئيس ليس مأذونًا كي يجمع شمل السؤال وجوابه في خيمة واحدة، الرئيس مفرّق جماعات وهادم لذّات، لا أحد يجرؤ أن يستفتيه، بلهَ أن يلقاه، هو حضرة، هو غياب، الغياب خصيصة من خصائص الآلهة، هو صاحب لدنية. يقول الرواة إنَّ علي دوبا (أو أحد العوالي المستعلين) جمع العلماء لمناسبة دينية، وحذرهم من سؤال الرئيس الذي سيلتقون به، لكن البوطي كان قد تأخر بسبب زحمة السير وطول الطريق ووعثاء السفر، ففاته التحذير، فالتمس من الرئيس أن يقتدي بالنبي الكريم، وأن يقول للإخوان المسلمين الذين ثاروا عليه: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فأبرز الرئيس نشرة النذير التي تصدرها "الطليعة المقاتلة" من جيبه، والتي كانت تكفره، فسُقط في يد البوطي. وكان البوطي من الذين يسهل أن يسقط في يده.

كان الأسد يحتفظ بالنشرة في جيبه كما يحتفظ أحدنا ببطاقته الشخصية!

إن أحدًا لا يستطيع الوصول إلى مدير عام شركة مثل شركة كبريت الفرس، الذي لا يشعل عودها المتوّج بهالة حمراء كاذبة إلا بلقاح من عود من كبريت الحصان، فكيف بالوصول للرئيس الذي تحرس قصره كلاب وجنود أكثر من كلاب حبيبة ولدي في قارئة الفنجان. تبيّن لنا أن الشركة الكريمة تخشى الحرائق، وأن الفرس بغل. لا أحد يستطيع أن يصل إلى مدير شركة المياه الراكدة، التي وجد في بركتها حمار، مات من العطش.

روى المرحوم حكم البابا أنه اقترح على مدير صحيفة تشرين، وكان شاعرًا، والشعراء أصحاب أحلام وأوهام، أنه رأى بمناسبة الحركة التصحيحية المباركة أن يجتمعوا ويرسلوا رسالة للأب القائد، بمطالبهم وأمانيهم وأحلامهم، أليسوا أبناءه؟ والرسالة تقتضي بعدًا وغيابًا، فسمعت الجدران كلامهم، فجرى تحذيرهم من إرسال الرسالة: الرئيس يطلب ولا يُطلب منه. الرئيس إله، يُحب من طرف واحد، الشعب يحبه، وهو يحب شعبًا آخر، "وَعُـلِّقَ أُخـرَى غَيرَهَا الرَّجُلُ".

كنا شعب نجوى، شعب منولوج داخلي، صفحة المحليات وقوس قزح لحفرة في الطريق، وعلى الشعب أن يستمتع ببرنامج ما يطلبه الجمهور، وأغنية يا صبحة هاتي الصينية. روى كاتب سوري قصة رسالة نشرت في مجلة الناقد، أرسلها رجل قبل أن ينتحر إلى السيد الرئيس ضمّنها لوعته وجوع أولاده، فحُفظت، ولو كان المرسل حيًا لأعُدم، أو أرسل إلى تدمر، لأنه أرسل رسالة إلى السيد الرئيس بالبريد. الرجل وفر على الرئيس قتله، فانتحر.

لم نكن أصحاب طرفة مثل الشعب المصري، الذي يحاور نظامه بالطرائف، بل إنَّ المصريين يحاورون الرئيس حتى إن برنامجًا مصريًا اسمه "اسأل الرئيس" يبثُّ على الهواء مباشرة، سأل فيه مصري اسمه خليل مرة الرئيس، ماذا سيفعل إن سقط في الانتخابات، فضحك الرئيس، حتى كاد أن يسقط من فوق الشجرة. طيب يا خليل.

لنذكر أنَّ حزب البعث لبث أزيد من ربع قرن من غير مؤتمر، وعندما عقده جعله سريًا، تحت الأرض، خوفًا من السلطات، فقال المرحوم ميشيل كيلو وقتها ساخرًا: كأنَّ حزب البعث حزب معارض!

لقد أطلت المقدمة..

كان للسوريين بريد مع الرئيس، والرسائل أنواع، فقد تكون مظاهرة، أو قد تكون طلقة مسدس، أو يكون حبرًا سريًا، أو يكون رأسًا مثل رأس المملوك جابر، وكان الذين أرسلوا المملوك جائر قد كتبوا رسالة على جلدة رأسه وانتظروا حتى نبت عليه شعر، خوفًا من الحواجز والعسس.

أيها السادة:

البريد هو الحائط، كل حائط في سوريا كان بريدًا، وكانت حيطان سوريا ملكًا للرئيس، عليها صوره وشعاراته، هي بريده الدائم إلى الشعب، شعاراته كثيرة: مثل شعار "لا حياة في هذا القطر إلا للتقدم والاشتراكية"، وشعار "قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد"، وشعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، وقد أضحى الشعار ناقوسًا يدق في عالم النسيان. ولا أريد لأحد أن يتستر على العيوب وأن يسكت على النواقص، من تكلم عنها أعدم، فكان شعارًا مقلوب المعنى. شعار من الأضداد.

كنا نكتب رسائلنا على الحجر، أما حبرنا فكان دمنا.

كنت أشكو من أن الدستور السوري كتاب مثل الجفر أو الهفت، لا نراه في المكتبات، وتطبع الحكومات الأوروبية ملايين الطبعات من دساتيرها، وتوزعها مجانًا على الشعب لتعرفهم بحقوقهم، بأحجام مختلفة، ثم وجدت أنَّ الدستور السوري الحقيقي مكتوب على حيطان سوريا. وقد تغيرت الشعارات وانقرض كثير منها، فالدساتير تعدّل، وبات لنا ثلاثة رؤساء، هم بوتين وخامنئي والأسد، وقد أرسل الشعب أول رسالة للأسد بعد ثورتي مصر وتونس، فكتب طفل رسالة قصيرة، وصلت بسرعة البرق، لو لم يكن طفلاً لما كتب الرسالة، حذر فيها الرئيس المتخرج من لندن عاصمة "المغنا كارتا" قائلاً: "جاك الدور يا دكتور". فاختل النظام واضطرب، وارتفعت حرارته، وعلا ضغطه، وأصابه الصداع والاحتشاء القلبي، وكان ما كان من اعتقال ونزع أظافر، وشتائم منكرة، ثم ردّ عساكر النظام وجنده مهددين المنتفضين المحرومين من الحوار، برسالة "مسجلة" على الحيطان أيضاً: الأسد أو نحرق البلد.

فكتب المنتفضون رسائل كثيرة، شاتمة، مثل: بائع الجولان، حافظ الوحش، ابن أنيسة، كلب إيران، يسقط الحكم الطائفي.

وصدق أصحاب الرسالة، فأحرقوا نصف البلاد، وقتلوا مئات الألوف من الشعب، بعضهم من غير تعذيب، وبعضهم تحت التعذيب الذي لم نسمع بمثله إلا في محاكم التفتيش الإسبانية، لكن الثورة استمرت، فكتب أحد الجنود رسالة غير مسجوعة هذه المرة، على البريد المعجل، على حائط حافظ الأسد، وكان كل حيطان سوريا له جريدة حائط. قال فيها:

"حمير شو ما بتفهموا، العمى، خلّوا كم حيط بالبلد".

أي لا تضطرونا أن نحرق البلد كله.

ثم باتت الرسائل ترسل على الأنقاض!

كان الحائط ديوان السوريين، إذا كتبنا على الحيطان ما نريد انتصرنا، الحائط هو الدستور، عليه كُتبت أهم المواد الدستورية، ولهذا دمر الرئيس كل الحيطان، حتى يحرمنا من الكتابة، ومن الدستور ومن أهم حقوقية مادة فيه:

الأسد أو نحرق البلد.

إما رماد الذل وإما رماد النار.

الحرق عليك هو المكتوب يا ولدي.