icon
التغطية الحية

"محدثو النعمة".. طبقة اجتماعية جديدة تطفو على السطح في الشمال السوري

2024.07.10 | 06:54 دمشق

قصور سرمدا
مشروع "قصور سرمدا" في ريف إدلب
+A
حجم الخط
-A

كان فقيراً معدماً يعيش في منزل متواضع، ويعمل طول اليوم لتأمين قوت عياله، وغالباً ما كان يستدين من جيرانه وأصدقائه في حال تعرّض إلى ظرفٍ طارئ، أو نزلت به مصيبة، أمّا الآن فقد أصبح (فجأة) من أصحاب المال والجاه، وانقلبت حياة الفقر والعوز إلى حياة الغنى والثراء والسيارات الحديثة والمنازل الفارهة.

هذه الظاهرة الاجتماعية انتشرت بشكل واضح جداً في سوريا بشكل عام، وخلال السنوات الماضية، باتت تُشكّل طبقة اجتماعية واضحة في الشمال السوري، أُصطلح على تسميتها بطبقة "محدثي النعمة"، وهي طبقة استفادت من ظروف الحرب والمتغيّرات التي رافقتها، وانتقلت بذلك من حالة الفقر المدقع إلى عالم الثراء اللامحدود، وخلال فترات قياسية.

طبعاً لم تهبط عليهم تلك الثروات من السماء، بل كانت في غالبها نتيجة صفقات مشبوهة، وأحياناً تجارات غير شرعية وسرقة المال العام والخاص، وغالباً ما ترتبط هذه الطبقة بأصحاب السلطة والنفوذ، مما يمنحها مزيداً من السطوة والقوة والحماية.

كثير من الباحثين الاجتماعيين يرون أن ظروف الحرب والتغيّرات السياسية في أي مجتمع سيؤدي بالضرورة إلى صعود ونشوء طبقة جديدة في المجتمع تتكوّن من "محدثي النعمة" وأصحاب الأموال مجهولة المصدر، وغالباً ليسوا من أصحاب المال والتجارة، إنما في الأصل فقراء وأصحاب أعمال بسيطة.

ما يميّز هذه الطبقة أيضاً هو سرعة انتقالها إلى مستويات اقتصادية متقدمة جداً، لتتجاوز بذلك الطبقة الوسطى وطبقة صغار التجار، حيث وصل معظمهم إلى مصاف كبار التجّار وتساووا معهم، إلا أنّ أوضاع أبناء هذه الطبقة من الناحية الاجتماعية والثقافية والفكرية لم تتماش في معظم الأحيان مع وضعها الجديد، ما دفع أصحابها إلى إثبات أنفسهم في المجتمع من خلال مظاهر البذخ والترف، وإقامة الحفلات والمظاهر الاجتماعية، إضافة إلى التباهي بالحرس والمرافقات الشخصية، وغير ذلك من مظاهر الاستعراض والتباهي.

"طرق متعددة لـ جمع الثروة"

استغلّ أبناء هذه الطبقة ظروف الثورة السورية وما رافقها من قمع وحشي من قبل النظام السوري وميليشياته، لتحصيل أكبر قدر من المكاسب المادية، إذ خلقت حالة الفوضى وانهيار النظام الإداري والقانوني فُرصاً مناسبة للفساد والاستغلال، وسمحت لبعض الأفراد بجمع ثروات كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة وسريعة.

كذلك، أدّى الوضع الأمني الهش في السنوات الأولى للثورة السورية، وعدم وجود سلطة قضائية قوية، إلى انتشار حالات الخطف والفدية في العديد من المناطق، مما شكّل بدوره مورداً هاماً نظراً للمبالغ المادية الكبيرة، التي كانت تُدفع لأناس مجهولين مقابل إطلاق سراح المخطوف.

وفي هذا السياق يوضّح المختص في الشأن الاقتصادي بمركز "جسور" للدراسات عبد العظيم المغربل، أنّ هناك العديد من الموارد والطرق التي جمعت بها هذه الطبقة ثروتها، من أبرزها التجارة غير القانونية، تهريب البضائع، الأسلحة، المخدرات، الآثار، وحتى الاتجار بالبشر.

وأضاف "المغربل" في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، أنّ بعض الأفراد تمكّنوا من الاستفادة بشكل غير شرعي من المساعدات الدولية المخصصة للنازحين والمحتاجين، والبعض استولى على ممتلكات النظام التي تركها أو ممتلكات المهجرين والنازحين، إلى جانب استغلال الفوضى في بدء مشاريع صغيرة ومتوسطة ناجحة، مستفيدين من الفراغ القانوني وعدم وجود سياسيات اقتصادية ضابطة.

يُضاف إلى ما سبق -وفق المغربل- فئة المقربين من القوى العسكرية والسياسية، الذين يحصلون على امتيازات خاصة تتيح لهم أنماطاً من الكسب السريع، ناهيك عن أمراء الحرب والمستفيدين من الوضع العام.

الطبقة الوسطى أكثر المتضررين

غيَّرت سنوات الحرب السورية على مدار نحو 13 عاماً، التشكيل المجتمعي والاقتصادي للمجتمع السوري بشكل عام، وألغت إلى حد كبير فئة الطبقة الوسطى، التي أصبحت عاجزة أمام هذه المتغيّرات عن مواصلة صراعها المستمر في الحفاظ على الحد الأدنى من المستوى المعيشي، إذ وصل معظم المنتمين إليها حد الفقر أو أدنى منه، وذلك مقابل نمو وازدهار الطبقة الاجتماعية الجديدة المسماة "محدثي النعمة".

الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، أوضح أنّ أهمية الطبقة الوسطى تأتي من كونها صلة الوصل بين الطبقتين: الفقيرة والغنية، وهي التي تحمل مسؤولية التوازن بين الطبقات، ناهيك عن أنها المُنتج الأساسي للسلع والخدمات، أي المحرّك الأساسي للاقتصاد من إنتاج واستهلاك، وانهيارها يعني انهيار أحد أعمدة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

وحذّر "السيد عمر" في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا من أنّ غياب هذه الطبقة يعني تراجع الطلب والاستهلاك والنمو، كذلك سرعة هذه الطبقة باتجاه الهجرة وترك العمل، فهي تشكّل رأس مال بشرياً مهماً، وهي أساس التوازن والاستقرار الطبقي والاجتماعي في المجتمع.

ويُكمل الباحث في الاقتصاد السياسي حديثه بالقول: إنّ "محدثي النعمة" يتركون آثاراً سلبية على أبناء الطبقة الوسطى من خلال الضغوط النفسية والاجتماعية، ما يدفعهم إلى الهجرة بحثاً عن حياة أفضل.

يذكر أن استمرار تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية ما يزال يدفع آلاف الشباب إلى الهجرة، ما دفع صندوق الأمم المتحدة للسكّان (UNFPA) للتحذير من أن المجتمع السوري يسير نحو الشيخوخة بسبب نقص الشباب، إذ كشف التقرير الصادر في الشهر الأول من العام الجاري، أنّه من المتوقّع أن يزداد عدد الأشخاص في سوريا الذين تزيد أعمارهم على 60 عاماً بنحو خمسة أضعاف بين عامي 2020-2050.

تأثيرات اجتماعية لظهور هذه الطبقة

أدى ظهور هذه الطبقة إلى تغييرات في القيم والمفاهيم الاجتماعية والثقافية، فحالة الثراء والغنى دفعت أبناء هذه الطبقة إلى تبنّي أنماط حياة جديدة وسلوكيات استهلاكية جديدة، كما أنّ وجود هذه الطبقة يمكن أن يؤثّر على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المنطقة، إذ تسعى هذه الطبقة للحفاظ على مصالحها الاقتصادية والسياسية بغض النظر عن أهداف ومبادئ الثورة التي تحرص على ادّعاء تمثيلها في كل مناسبة من جهة، وبعيداً أيضاً عن الشعور بباقي أفراد المجتمع الذين يعانون من أوضاع اقتصادية صعبة من جهة أخرى.

إلى جانب ذلك تؤكّد نسبة كبيرة من الآراء التي استطلعها موقع تلفزيون سوريا أن سلوكيات نسبة كبيرة من هذه الطبقة تعود بالضرر على الحاضنة الشعبية للثورة السوريّة، ففي الوقت الذي قدّم فيه السوريون دماءهم على طريق الحرية والكرامة، كانت نسبة كبيرة من أبناء هذه الطبقة يستغلون اسم الثورة لجمع المال ومراكمة الثراء.

من جهته يوضّح الباحث عبد العظيم المغربل أن ظهور هذه الطبقة سيكون له آثار سلبية واضحة على عموم المجتمع من النواحي الاجتماعية والاقتصادية، فهي تُفسد ثقافة العمل، وثؤثّر على المنافسة في سوق العمل والإنتاج.

ويتابع: "التأثير الأبرز لهذه الطبقة من الناحية الاجتماعية تتجلّى في اتساع الفجوة بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء، حيث إن الأثرياء الجدد غالباً ما يعيشون في رفاهية واضحة مقارنة بالأغلبية التي تعاني من الفقر، ما يتسبّب في زيادة الجرائم الاقتصادية مثل النهب والسرقة، بسبب الحاجة الماسة".

يأتي في الوقت الذي يعاني فيه الشمال السوري من أوضاع اقتصادية ومعيشية قاسية جداً، حيث بلغت نسبة العائلات الواقعة تحت حد الفقر 90.93%، وزاد حد الجوع إلى مستوى جديد، ما يرفع نسبة العائلات التي وصلت حد الجوع إلى 40.67%، كما وصلت نسبة البطالة العامة إلى 88.65%، بحسب بيان لفريق "مسنقو استجابة سوريا" صدر في آب 2023.