أيام تفصلنا عن الانتخابات البلدية التركية يوم الأحد المقبل (31 آذار الجاري) لاختيار 1393 رئيس بلدية ومقاطعة، وانتخاب ما يقارب من 33 ألف مختار لكل مدن وأحياء وقرى تركيا والتي سيكون لها تأثيراتها ومفاجأتها أيضاً.
لا تعد الانتخابات المحلية بأهمية الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والتي حددت شكل البلاد لخمس سنوات أخرى، إلا أن التأثيرات السياسية متداخلة في كل حدث من نوعه في تركيا بما في ذلك اختيار رؤساء البلديات والمقاطعات ومخاتير الأحياء والبلدات.
عقدان من صدارة "العدالة والتنمية"
وخلال العقدين الماضيين فاز حزب العدالة والتنمية بأعلى الأصوات في كل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية، في الوقت الذي يسعى لكسب فوز جديد بالانتخابات المقبلة والتي يكون فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في منصبه للمرة الأخيرة بحسب ما صرح بذلك طالباً من الشعب دعم حزبه.
يريد الرئيس أردوغان استعادة إسطنبول وأنقرة كهدف أساس في الانتخابات البلدية مع المحافظة على أكبر عدد ممكن من البلديات الكبرى والصغرى لإتمام المشاريع التي يعد بها، متجاوزاً هزيمة عام 2019 بخصوص المدن الكبرى.
في ذلك العام، مني العدالة والتنمية بأسوأ انتكاسة انتخابية عندما فازت المعارضة التركية ببلدية إسطنبول (المدينة الرئيسية) والعاصمة أنقرة، اللتين سيطر عليهما الحزب لمدة خمسة وعشرين عاماً.
المختلف في هذه الانتخابات أن الحزب الحاكم حافظ على تحالفه الصلب مع الحركة القومية معولاً على كتلة لا يستهان بها من أصوات القوميين إلى جانب كتلته التي تضم أصوات الوسط والمحافظين.
في المقابل فكت أحزاب المعارضة التركية تحالفاتها بعد خسارة الانتخابات الرئاسية وفضلت خوض الانتخابات المحلية منفردة أو عبر تحالفات صغيرة قد لا يكون لها تأثيرها المباشر على النتائج في البلديات الكبرى.
ومع ذلك قد يكون هناك مفاجآت حتى الساعات الأخيرة قبل الانتخابات ما قد يكون له تأثيراته المباشرة على سير عملية التصويت والنتائج وتحديد الفائز وخصوصاً بما يتعلق بالمدن الكبرى كإسطنبول وأنقرة المتأرجحتين بين حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة.
وفي تصريح قديم قال الرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل إن "24 ساعة في السياسة التركية مدة طويلة جداً"، وهذه المقولة يكررها الصحفيون والمحللون السياسيون الأتراك دائماً في مقالاتهم وأحاديثهم على الشاشات، كتعبير عن حجم التغيرات الذي يمكن أن يحدث في البلاد قبل الانتخابات.
والسؤال الذي يطرح نفسه، ما المفاجآت التي قد تحصل خلال الأيام القادمة في السياسة التركية أو بين الأحزاب فتؤثر على سير الانتخابات أو نتائجها على الأقل في إسطنبول وأنقرة؟
تنافس وصعود أحزاب جديدة
وشهدت خريطة التحالفات في الانتخابات المحلية التركية بعض التغيرات بما يخص تحالف الشعب الذي يقوده حزب العدالة والتنمية إلى جانب حزب "الحركة القومية" وحزب "الوحدة الكبرى"، في حين انسحب حزب "الرفاه من جديد" من التحالف مفضلاً خوض الانتخابات منفرداً بمرشحيه.
ولا شك أن انسحاب حزب الرفاه من جديد بقيادة محمد علي فاتح أربكان نجل رئيس الوزراء التركي الأسبق نجم الدين أربكان قد ينبئ بملامح جديدة للمنافسة السياسية في تركيا، خصوصاً مع استقطاب المحافظين.
ولعل هذا الحزب الذي يُعدُ نفسه الوريث الشرعي لشخصية أربكان (أبو الإسلام التركي) ينافس العدالة والتنمية وحزب السعادة على كتلة الأصوات المحافظة في عموم البلاد وبالأخص في إسطنبول وأنقرة ومدن الأناضول.
يعد حزب "الرفاه من جديد" أبرز الصاعدين السياسيين في تركيا، فقد تمكن من الحصول على 1.5 مليون صوت قرابة 2.8 في المئة من أصوات الناخبين بالانتخابات البرلمانية ما أعطاه 5 مقاعد بالبرلمان التركي مقابل دعمه لأردوغان في الرئاسة.
وخلال الأشهر الماضية عمل على الترويج لنفسه فانضم لصفوف حزبه جدد فارتفع عدد أعضائه من 260 ألفاً إلى 474 ألفاً، في محاولة ليكون رقماً صعباً بالمعادلة التركية.
يشترك "الرفاه من جديد" مع "العدالة والتنمية" والسعادة (الذي كان يرأسه نجم الدين أربكان) في الأيديولوجيا إلى حد كبير، وإن كان العدالة والتنمية أكثر اعتدالاً وتنوعاً في خلفيات أعضائه ومنتسبيه وحتى مؤسسيه.
وفي الوقت الحالي يشترك "الرفاه من جديد" و"السعادة" في معارضة الحزب الحاكم، كما أنهما يخوضان منافسة ليست قليلة معه على الأقل في بلديات المقاطعات داخل المدن الكبرى، وقد يسحبان منه عدداً لا بأس به من أصوات المحافظين بما يخص بلديتي إسطنبول وأنقرة.
يريد العدالة والتنمية الفوز بإسطنبول بأي شكل ممكن، وقد رشح لذلك مراد كوروم في مواجهة مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، والعديد من الأصوات في الحزب أكدت أن "الرفاه من جديد" بعدم انسحابه من انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول يدعم فوز إمام أوغلو عبر تقليل أصوات كوروم.
وتصاعدت المنافسة بين "العدالة والتنمية" و"الرفاه من جديد" بعد دعوة الأخير لأنصاره يوم الأحد السابق لميدانين مختلفين بإسطنبول، فيما يعبر عن تشتيت أصوات المحافظين في إسطنبول مع احتفاظ العدالة والتنمية بالحظوة الكبرى.
ومع بدء مسيرة العدالة والتنمية بإسطنبول التي حضرها الرئيس التركي أردوغان، حضر شخص كبير في السن إلى المنصة، وإذا به "سعاد باموكوجو" البرلماني الذي انشق عن حزب "الرفاه من جديد" وانضم للحزب الحاكم.
ويستغل "الرفاه من جديد" أيضاً العداون الإسرائيلي على غزة المستمر منذ 7 من تشرين الأول الماضي، موجهاً نقداً شديد اللهجة إلى الحزب الحاكم بما يخص استمرار التجارة التركية مع الاحتلال الإسرائيلي رغم ما يجري في القطاع.
وقال فاتح أربكان: "هل يناسبنا القيام بهذه التجارة؟ عار علينا. إسرائيل تلبي 95% من احتياجاتها من الإسمنت من تركيا. تلك الأسلاك الشائكة تتراكم حول المسجد الأقصى". مضيفاً "نحن لا نجعلك تخسر. تجارتك مع إسرائيل تجعلك تخسر".
كما أن دعوات كثيرة وجهت للحزب لسحب مرشحيه من الانتخابات لصالح "العدالة والتنمية" على الأقل فيما يخص بلديتي إسطنبول وأنقرة اللتين لا يعرف مصيرهما بشكل نهائي حتى الآن.
وباعتبار أن الأيام الأخيرة قد تحمل من المفاجآت الكثير، فإن انسحاب أي مرشح من "الرفاه من جديد" بأي مدينة كانت وخصوصاً إسطنبول سيصب في صالح مرشح العدالة والتنمية بشكل مباشر، إذ إن فروق النقاط بين "كوروم" و"إمام أوغلو" لا تتعدى 1 إلى 2 في المئة من الأصوات لكل منهما بحسب استطلاعات الرأي المختلفة.
هل من مفاجآت لدى المعارضة؟
كثرة أعلام الأحزاب وصور المرشحين للبلديات في تركيا تنم عن أجواء ديمقراطية واسعة، كما أنها تخفي خلفها نوعاً من الضبابية في معرفة حجم كتلة كل حزب، خصوصاً مع دخول معظم الأحزاب الجديدة الانتخابات البلدية منفردة للمرة الأولى، وهو ما قد يساعدها في تحقيق خرق بخارطة التحكم بالبلديات.
ولعل فوز المعارضة ممثلة بحزب الشعب الجمهوري مجدداً بإسطنبول وأنقرة وإزمير يعني أن حزب الشعب الجمهوري يحافظ على كتلته الثابتة ويستقطب أصوات الأحزاب الأخرى دون تحالفات ما قد يفتح الباب لتساؤلات عن مستقبل تركيا بعد انتهاء ولاية الرئيس أردوغان عام 2028.
إمام أوغلو الذي يرى نفسه منافساً لأردوغان وليس لمراد كوروم فاز من قبل بأصوات تحالف ضخم من المعارضة ضم كلاً من الحزب الجمهوري وحزب الجيد وحزب السعادة وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي (حزب المساواة وديمقراطية الشعوب حالياً) مقابل التخلي عن ترشيح أشخاص لبعض البلديات.
في الانتخابات الحالية تفككت تحالفات المعارضة، فقدم كل حزب مرشحه، فلا يوجد خلف إمام أوغلو في مواجهة إمام أوغلو بشكل رسمي سوى كتلة حزبه (الشعب الجمهوري) والتي لم يفز بإسطنبول سابقاً بأصواته فقط.
إسطنبول التي تعبر إلى حد كبير عن تنوع تركيا السياسي والعرقي، يقطن فيها أكثر من 16 مليون نسمة، ترشح إلى رئاستها 49 شخصاً بينهم 22 مرشحاً حزبياً و27 مرشحاً مستقلاً.
ورغم أن المنافسة محصورة في إسطنبول بين "كوروم" و"إمام أوغلو" وفي أنقرة بين منصور يافاش (مرشح حزب الشعب الجمهوري) و"تورغوت ألتينوك" عن حزب العدالة والتنمية، إلا أن الناخبين المترددين قد يغيروا آراءهم باللحظات الأخيرة ويصوتوا لأحزاب مختلفة في البلديات الكبرى ولأحزابهم التي يفضلونها أو ينتمون لها ببلديات المقاطعات.
وعلى إثر ذلك، يرشح حزب "الشعب الجمهوري" أحمد أوزر لبلدية أسنيورت بدعم من حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" الكردي، وهو ما يمثل اتفاقاً غير معلن للمكان الذي يضم أكبر عدد من الأكراد في إسطنبول.
وفي حال انسحب أحد المرشحين قبل الانتخابات البلدية ولو بساعات، من أحزاب "المساواة وديمقراطية الشعوب" أو "البلد" (الذي يقوده المرشح الرئاسي السابق محرم إنجه) أو "حزب الجيد" فهو يصب في صالح مرشحي "الشعب الجمهوري" وبالأخص في أنقرة وإسطنبول.