مضى عقدٌ ونيف من الزّمن على ثورات الربيع العربي، كان لكل موطنٍ عربي نصيب منها، تفتح بذلك أسباباً وتساؤلات كبرى عن الحقائق والأسباب والمسبّبات التي أحدثت تلك الحالة المعقّدة "الثورة"، فلا يمكن في حال من الأحوال إنكار أهمية العوامل الاقتصادية في تحديد مسار الثورة.
على اختلاف الجغرافية التي حدثت فيها تلك الثورات، قد تجدُ فوضى اقتصادية واجتماعية هنا وأعمال شغب واعتصامات هناك في مكان آخر كحالةٍ طبيعيةٍ لاندلاع مواجهاتٍ مناهضة للحكومات على حد سواء.
لكن السوريين ليس كغيرهم، كان لهم بالطّبع نصيبٌ وافر من ثورات الربيع العربي، فعندما انتقلت الثورة من مرحلة الاحتجاجات السلمية إلى استخدام التقنيات العسكرية أيقنت سلطات الديكتاتور أنه لابد من تغييرات تقنية في طُرق المواجهة، فالقوة العسكرية غيرُ كافية لإخماد تلك الاحتجاجات الشعبوية العارمة، فعمدت تلك السلطات إلى استخدام سلاحٍ من نوعٍ آخر.
لقد أدرك صاحبُ كلّ بصيرةٍ أنّ ما وقع على الشعب السوري خلال العُشرية الماضية أمرٌ جلل وأحداث دمويةٌ لدرجةٍ كبيرة حتى على مستوى التفكير وعلى صعيد الإدراك وسبل الحياة فإن سألتَ أحداً ممن كان موجوداً في إحدى ساحات الحرب ما هي مؤشرات الحرية اليوم، ترى لسانه قد انبرى وانطلقَ على الفور: حصار وجوع وكأنّ لسانَ حاله يقول عندما نكون جائعين سنكون بخيرٍ بعيدينَ عن سطوةِ الدّولة وسلطة الحاكم.
علاوةً على ذلك فقد اعتاد السوريون طوال فترة الحرب على فلسفةٍ من نوعٍ آخر رسخت في أذهانهم هي "ديمقراطية الخبز" فكلما كانوا يمتلكون غذاءهم باتوا يشعرون باقترابِ يدِ البطش والقتل من قبل النظام وحلفائه.
جوع - حصار - فقر - مجاعة، تلك العناوين التعيسةُ البائسةُ التي كانت السِّمة الأبرز والأكثر إيلاماً في كلّ المناطق التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد الذي بَرَعَ في استخدام لقمة العيش لابتزاز الثائرين وسلب حريتهم التي لطالما كانوا جائعين لها قبل كل شيء.
السّوريون كغيرهم من باقي الشعوب التي سلكت درب التغيير والديمقراطية كانت لديها أدنى مقومات سبل العيش الكريم، كانوا قادرين على اكتسابها بأثمانٍ بسيطةٍ قبل الثورة لكنها لم تكن كافية البتّة، لأنّ الأحرار وحدهم هم القادرون على توفير خبزهم، أما العبيد ليسوا قادرين على تحقيق حياتهم ولا حتى على مجرد تأمين عيشهم، ولأنّ الفقر والجوع والمعدات الخاوية لن تقف حائلاً في وجه الحرية والديمقراطية، كما قال الإمام الغزالي: شعوبٌ عابدةٌ لرغيفها سوف تموت دونه.
كان على إيلاي أكسوي أن تعرف حقيقة كبرى مفادها أنّ الشعب السوري قد ضحّى بكل ما يملك بما في ذلك لقمة العيش التي كانت في حوزته وأمام عينيه في سبيل الانعتاق من سطوة الاستبداد والمضيّ في طريق النهضة والتغيير ورفع يد البطش والقمع والملاحقة التي أثقلت كاهِلَهُ طِوال العشرية الماضية، والخلاص من القهر والذلّ والتجويع، ذلك السلاح الذي استخدمته ضدّهم أكبرُ عصابةٍ مجرمةٍ عرفها التاريخ المعاصر.
كان على أكسوي أن تعرف أيضا أن من أوعز لها بدخول دمشق وهيّأ لها أحسن الظروف لديه لعبة قذرة هدفها التّسخيف بقضية اللجوء السوري في تركيا بالمقام الأول، وإفقاد تلك القضية أهميتها كَبُعدٍ إنساني، والإيهامُ أنّها قضيةٌ يمكن حلّها بأبسط السّبل، وإقناع الشّارع التركي أن اللاجئين السوريين ليسوا فارين من المَقتَلة السورية فهم يقومون بسياحة لا قيمة لها، ودعم التّوجه الذي باتَ راسخاً في أذهان المعارضة التركية المناهضة أصلاً للوجود السوري في تركيا أنّ إعادة اللاجئين باتَ أمراً حتمياً على اعتبار أنّ سوريا أصبحت بلداً آمناً مع وجود "رغيف الخبز".
حُلُم السوريين بالديمقراطية والحرية لا يساويه فتاتٌ من خبز أو حتى حفنةٌ قليلة من محروقاتٍ لا يملكها أصلاً من يدّعي أنّه فاتحٌ ذراعيه لاستقبال اللاجئين، وإعطاءُ وعودٍ زائفةٍ بالإصلاح بعد أن أوغل في دماء السوريين بلا هوادة فلا يمكن لأولئك اللاجئين التماس الأمان ولو بالحد الأدنى في حُضن القاتل.