لم يأت الأسد بجديدِ في خطابه الأخير على الأقل بالنسبة للموالين الذين كانوا ينتظرون من سيدهم قليلاً من الرأفة والعطف والشفقة، فقد تجاهل معاناتهم كالمعتاد، ورمى بآلامهم عرض الحائط، ولم يتعرض في خطابه للوضع الكارثي بكل محاوره الاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي باتت تعصف بهم أكثر من أي وقت مضى.
بوجه شاحب وعيون غائرة ونبرة غير مباشرة أوصل الأسد رسالته أنّ الوضع القائم لن يتغير بل إنه قادم على انهيار أكبر، فالأسد قد حسم الأمر وأغلق كل الأبواب التي فُتِحَت لأجله وحرق كل أوراقه وقطع كل يدِ امتدت إليه، فها هي البعثات الدبلوماسية قد غادرت البلاد والمعابر الحدودية قد توقفت عن الحركة، فهو ماض إلى ما هو ماض إليه، ليس المهم أن يكون مضمون الفعل في صالح الرعية التي وقفت إلى جانبه خلال سنين الحرب، المهم هو البقاء رأس المملكة الديكتاتورية إلى الأبد، والأهم من ذلك هو التّربع على عرش صناعة الكبتاغون، وأنه لن يتراجع قيد أنملة عن ترويع دول الجوار وإغراقها بالممنوعات .
عنجهية الأسد المفرطة تجاه أي مبادرةِ عربية كانت تصبّ في مصلحة تلك الدول أولاً في لجم مافيا الأسد في إيقاف عمليات تهريب المخدرات عبر الحدود، لكنها كانت قادرة ولو بالحدّ الأدنى على إعطاء جرعة حياةِ صغيرة للنظام، والاستحواذ على المال الخليجي عبر مشاريع التعافي المبكر، والاستثمار في تلك المبادرات للبقاء على عرش السلطة أطول فترة ممكنة، لكنه أيقن أن أي مبادرة عربية تحتاج إلى تنازلات ينبغي تقديمها للمضي في عملية التطبيع وأن أي تنازل بسيط أو انزياحِ جزئي عن المسار قد تكون النهاية، فهو ذاهبٌ إلى حتفه بخطىً ثابتة حتى مقتل آخر جندي سوري .
في مقابلة الأسد الأخيرة مع قناة سكاي نيوز عربية بدا الخوف واضحاً جلياً في ملامحه، وكأنه قد استشعر خطراً كبيراً قد يحدق به في قادم الأيام، ذلك اللقاء الذي استوحى صفة رسمية على اعتبار أنه مع رئيس دولة معترفِ به عربياً ودولياً، لكن من أمعن جيداً في سيرورة اللقاء أدرك أن اللقاء كان مع زعيم لمافيا دعائمها الرئيسية صناعة وتصدير الكبتاغون بشكل رئيسي، دلّ على ذلك سؤال المحاور للأسد حول المخاوف الأمنية على حياته وحياة أسرته فكان الجواب أكثر برودةً واستعلاءً أنّ المستهدف في الحالة السورية هي سوريا فقط وليس أي شيءِ آخر .
كثيراً ما تباينت ردود أفعال الموالين للسلطة بين الفينة والأخرى حيال الأوضاع الكارثية التي يعيشونها، فمع اكتساب الوضع السياسي للبلاد هدوءا نسبياً تظهر أصواتٌ من هنا وهناك مليئة بالقرقرة والتململ لتحريك المياه الراكدة وخلق واقع جديد، لكنها قد تتغير فجأة إلى صمت مطبق عندما يطرأ أي تغيّر سياسي فالحشود العسكرية في الجنوب الشرقي للبلاد تنبأ بحرب وشيكة قد تجعل الوضع بالنسبة لهم أكثر كارثية وسوداوية، فالمهم في هذه المرحلة بالنسبة لهم هو القائد والوطن لتعزيز الشعور الوطني لديهم أمام القيادة الحكيمة، لكنّ هناك سؤالا جوهريا كبيرا يتردد باستحياءِ على ألسنتهم لا يستطيعون المجاهرة أو البوح به ولا يملكون له جواباً، قد يكون السبب في ذلك الصمت المفاجئ :
" ماذا قد يُفعَلُ بنا إذا رحل الأسد؟ "
بخطاب أو من دون خطاب لن يجني الموالون للأسد مكاسب جديدة أو حتى وعود قريبة بتحسين الوضع المعيشي وهم يعرفون ذلك جيداً، عدا جرعات جديدة اعتادوها من الصمود والتصدي ومقاومة الوعي وجهاد التبيين على الطريقة الإيرانية، فقد خَبِرَ الموالون على مدى عقد من الحرب أن تلك الخطابات الزائفة الأسطورية المبتذلة تحمل في تبعاتها انهياراً اقتصادياً سريعاً بدءا من الهبوط الحاد لسعر صرف الليرة وليس انتهاءً بغلاء الأسعار والقنابل الإسرائيلية التي أمطرت دمشق عقب اللقاء مباشرةً، لكنّ الجديد في هذه المرّة أن الأفق مفتوح لانهيار أكبر للاقتصاد المتهالك أصلاً، وأن المئة ألف متظاهر ونيّف قد لا يكون سوى رسالة مبطّنة للموالين عن سعر صرف الليرة القادم.
يمكننا القول ببساطة أنّ حرب الأسد على المعارضة قد انتهت، فليس هنالك أي تغييرات تذكر، وأن تلك الحرب قد تحوّلت إلى الحاضنة الموالية فهل يستطيع الأسد حسمها لصالحه أيضاً؟ ذلك هو الرهان...