أظهرت حرب الإبادة الجماعية، التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكثر من عشرة أشهر، أن نظام الأسد أخذ مسافة من الانخراط في محور الممانعة والمقاومة، حيث لم يقم بأي عمل يدعم "حزب الله" اللبناني الذي بادر إلى فتح جبهة إسناد في الجنوب اللبناني، وذلك على الرغم من أن نظام الأسد يدين لهذا الحزب بالكثير، فضلاً عن أن النظام لطالما اعتبر نفسه أحد أعمدة محور المقاومة، وكان يتفاخر بالانتماء إليه، وتلطى طوال سنين طويلة تحت شعار "وحدة الساحات"، الذي تجتمع تحت سقفه جميع القوى المنتمية إلى هذا المحور، بقيادة النظام الإيراني ورعايته. وقد برزت مؤشرات عدة على تغير موقف نظام الأسد مع تزايد وتيرة التوتر في المنطقة، خاصة بعد اغتيال إسرائيل كل من القائد العسكري الكبير في صفوفه، فؤاد شكر، في قلب ضاحية بيروت الجنوبية، ورئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية "حماس" في طهران، وتوعد
"حزب الله" والنظام الإيراني بالرد عليها، وبالتالي، فإن أسئلة عديدة تبرز حول حيثيات اتخاذ النظام موقف النأي بالنفس الذي يتخذه، وأسباب بقائه بعيداً عن المواجهة الدائرة في المنطقة، وعما إذا كان سيحافظ عليه فيما إذا توسعت دائرة الحرب، حيث تشي مؤشرات عديدة إلى ابتعاد نظام الأسد محور الممانعة والممانعة، وذلك على خلفية عدم انخراطه، خلال الفترة الأخيرة، بأي فعالية من فعاليات هذا المحور الاستعراضية، بدءاً من عدم مشاركته فيما يسمى اليوم العالمي للقدس، مروراً بعدم مشاركته في تشييع فؤاد شكر، وصولاً إلى تجاهل وسائل إعلام النظام خطابات أمين عام حزب الله حسن نصر الله، التي لم يخفف فيها من حدة جعجعته وتوعده بالرد على إسرائيل التي اغتالت شخصيات عديدة من حزبه، عسكرية وسياسية. إضافة إلى أنه لم يصدر عن نظام الأسد سوى بيان لوزارة خارجيته، لم يأت فيه على نعي إسماعيل هنية، بل ذكر اسمه مرة واحدة فقط، في إطار حديثه عن جريمة نفذتها إسرائيل "بالهجوم الذي شنته على طهران وأدى إلى مقتل هنية"، في حين ركز البيان على إدانة انتهاك سيادة إيران، وإعلان تضامن نظام الأسد ووقوفه إلى جانبها.
يبدو أن بوتين يهمه كثيراً نأي نظام الأسد بنفسه عن المحور الإيراني، وذلك ضمن حسابات اختلاف أجندات كل من نظام بوتين ونظام الملالي في سوريا
بالمقابل، تحاول أطراف محور المقاومة، وخاصة إيران وحزب الله، الظهور بمظهر المتفهم لموقف نظام الأسد في الامتناع عن الانضمام إلى جبهة الإسناد، التي انخرط فيها بشكل مباشر كل من حزب الله والحوثيين، حيث لم تبادر أطراف هذا المحور توجيه اللوم أو الانتقاد إلى النظام. ربما لا تريد قيادات هذه الأطراف إظهار وجود خلافات مع نظام الأسد، خاصة وأنهها تعي أنه لا يملك من أمره شيئاً، ولا يمكنه اتخاذ أي قرار مستقل. وهنا تبرز مسألة استدعاء بشار الأسد إلى موسكو مؤخراً، تحت جنح الظلام، ودون أي موعد مسبق، وحديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن التصعيد الذي ستشهده المنطقة، وتطلعه إلى معرفة موقف النظام منه.
ويبدو أن بوتين يهمه كثيراً نأي نظام الأسد بنفسه عن المحور الإيراني، وذلك ضمن حسابات اختلاف أجندات كل من نظام بوتين ونظام الملالي في سوريا، حيث يريد نظام الملالي عبر تغلغله في سوريا، تحويلها إلى ساحة تشبه العراق أو لبنان أو اليمن، ولا يكتفي بأن يكون نظام دمشق موال له، بل يريد تحويل مناطق سيطرته لتكون قاعدة انطلاق لعمليات حرسه الثوري في مناكفاته ومواجهاته مع إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة، فيما لا يوافق النظام الروسي على هذا المسعى الإيراني، كونه يريد أيضاً أن تكون مناطق سيطرت النظام قاعدة لعملياته في منطقة الشرق الأوسط، لذلك قامت وزارة الدفاع الروسية، في نيسان/ أبريل الماضي، بإنشاء نقطة مراقبة عسكرية جديدة قرب خط وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل في الجولان السوري المحتل، لتشكل ثالث موقع عسكري تعلن روسيا إقامته منذ بداية 2024، وذلك على خلفية تصاعد وتيرة استهداف مواقع إسرائيلية في الجولان المحتل، من قبل مجموعات تابعة لميليشيا حزب الله وميلشيات إيرانية، بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
يدرك كل من هو على دراية بطبيعة نظام الأسد أن هذا النظام ينحصر همّه الوحيد في البقاء جاثماً على صدور السوريين، ويحاول ابتزاز الجميع واستغلال كل الفرص من أجل ذلك. وقد أخذ هذا النظام التهديدات القوية التي وجهتها له إسرائيل، وحذرته فيها من مغبة القيام بأي عمل عسكري من جبهة الجولان المحتل، حيث تحدثت تقارير إعلامية عن أن قيادة قوات نظام الأسد أصدرت أوامر لكافة قطعاتها وثكناتها العسكرية الواقعة عند الحدود مع الجولان، بعدم استخدامها كمنطلق لاستهداف إسرائيل، وضرورة تحييدها عن أي مواجهات عسكرية محتملة في المنطقة. وعليه، اكتفى نظام الأسد منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، باختيار لغة التنديد بأفعال إسرائيل والتأكيد على مواقفه، ولم يعتمد أبداً على التهديد أو الوعيد، أو حتى مجرد التلويح بفتح الساحة السورية، التي لم تعد إحدى ساحات المقاومة، وذلك على الرغم من أن نظام الأسد يحاول التأكيد على "سوريا كدولة مقاومة" والحفاظ على "هويتها"، بالرغم من محاولات إخراجها من "المعادلات الإقليمية".
الواقع هو أن كلا من النظامين الروسي والإيراني لا تريدان اندلاع مواجهة إقليمية مع إسرائيل، وإن كانا يختلفان في مدى استعدادهما لدفع نظام الأسد إذا اندلعت مثل هذه المواجهة. إضافة إلى أن هذا النظام يريد إظهار حياده عن الصراع الدائر في المنطقة حالياً، كي يظهر للمجتمع الدولي وكأنه تغير، ويريد تقديم أوراق جديدة كي ينخرط في محيطه الإقليمي والدولي. والأرجح أن التصعيد في المنطقة لا يرقى إلى حدّ التهويل بحصول حرب إقليمية تنخرط فيها إيران ومحورها مع إسرائيل.