يجري نظام الأسد اليوم الأحد (15 تموز/يوليو الجاري) انتخابات تشريعية جديدة في مناطق سيطرته لاختيار أعضاء جدد في مجلس الشعب، الذي يسميه ملايين السوريين "مجلس المصفقين"، وسط أجواء تشي بأنها لن تختلف عن سابقاتها، إذ لا يتوقع أحد بأن تحمل مفاجآت أو أن تحدث أي اختراق في أوضاع السوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام، كونها شكلية ومحسومة النتائج سلفاً، وغير نزيهة وغير شفافة، وتجري وفق نفس محددات سواها من الانتخابات التي دأب نظام الأسد على إجرائها منذ أول انتخابات نظمها حافظ الأسد بعد وصوله إلى السلطة بانقلاب عسكري، حيث لا يسمح النظام بإجراء انتخابات حرة وتنافسية، لكنه يصر على إجرائها ضمن الطقوس التي اعتاد عليها، وذلك على الرغم من تدني نسب المشاركة فيها، حيث تذهب تقديرات إلى أن نسبة المشاركة في انتخابات المجلس السابقة لم تتجاوز 26 في المئة، وأن معظم تلك المشاركات كانت "مزورة"، وتضمنت بعض قوائم الناخبين أسماء موتى ولاجئين ومعتقلين.
تأتي هذه الانتخابات، وهي رابع انتخابات يجريها منذ اندلاع الثورة السورية في العام 2011، كي تؤكد مرة أخرى على أن نظام الأسد لا يهمه الوضع الدامي والكارثي في سوريا، وأنه مستمر في عدم اكتراثه بأي مسعى للوصول إلى حل سياسي في البلاد، على الرغم من القرارات الأممية والمطالبات الدولية، وبالتالي، لن تخرج مشهديات انتخابات النظام هذه المرة عن تلك التي خبرها السوريون بامتياز سنين طويلة، حيث تعجّ الشوارع والساحات بصور المرشحين، وأغلبهم من الذكور، وتنتشر فيها لافتات تحمل شعارات فارغة تتحدث عن "صناعة منافسة" و"اقتصاد مُزهر"، ويركز بعضها على تحسين الأوضاع المعيشية. وهي شعارات يعي كل من يرفعها أنها كاذبة، ولا يمكنه الالتزام بما يعد فيها، لأن تحقيق الوعود أكبر منه حتى وإن كانت صغيرة، فهو مجرد أداة توظف في همروجة أو مهزلة هذه الانتخابات، التي تتجدد بعض الأسماء فيها ويتكرر بعضها الآخر، لكن الجميع يعي حدودها، وحدوده أيضاً، ضمن المشهد الهزلي نفسه. كما يعرف القاصي والداني أن أجهزة الأمن هي المسؤولة عن اختيار المرشحين فيها، وتحدد سلفاً قوائم من تريدهم الفوز بها، حيث تلزم سلطات النظام جميع المرشحين بتقديم طلبات ترشحهم إلى جهاز المخابرات العامة، الذي يقرر بعد قيامه بدراساته الأمنية من يُقبل طلب ترشحه.
ليس مستغرباً أن تتضمن قوائم المرشحين في هذه الانتخابات العديد من الأسماء المعروفة بتورطها في ارتكاب جرائم وانتهاكات ضمن صفوف أجهزة النظام، أو ممن لديهم سجل حافل بالفساد والسمعة السيئة
ليس مستغرباً أن تتضمن قوائم المرشحين في هذه الانتخابات العديد من الأسماء المعروفة بتورطها في ارتكاب جرائم وانتهاكات ضمن صفوف أجهزة النظام، أو ممن لديهم سجل حافل بالفساد والسمعة السيئة. إضافة إلى أن هذه الانتخابات تشهد للمرة الأولى مشاركة العسكريين، وخاصة أولئك الذين كانوا ضمن صفوف جيش النظام، وخاضوا معارك ضد الشعب السوري في السنوات السابقة، ويبدو أن النظام أراد مكافأتهم على جرائمهم.
يريد نظام الأسد أن يظهر عبر هذه الانتخابات استمرار تمسكه بمظاهر الدولة، التي تتمتع بسلطة تشريعية، وتريد تجديد شرعيتها، وذلك كي يغطي ما أمكنه على تركيبته التسلطية اللا شرعية، التي يفرضها على السوريين في مناطق سيطرته، ولا يعدم هذا النظام أن يجد في حاضنته من يستجيب لما يريده، وهو يعلم تماماً أن المجلس لا يعدو كونه مجموعة من المصفقين، الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا مجرد أدوات لسلطة النظام، ولن يشاركه في مسعاهم سوى أشخاص مقربين أو منتفعين منه، ولا يملكون أي التزام أخلاقي أو دافع وطني، لأن همهم الوحيد محصور في أنانيتهم وحصولهم على مكاسب ومغانم على حساب معاناة بقية السوريين، الذين باتوا يعانون أوضاعاً لا تطاق، نتيجة التدهور المتزايد في أوضاعهم المعاشية والاقتصادية، وذلك في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الأساسية للعيش، وانهيار سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأجنبية وتدهور القدرة الشرائية، وفقدان الأمان والأمن، وتسلط المافيات والميليشيات وأجهزة الأمن على حياة السوريين وسوى ذلك.
تشترك أجزاء واسعة من المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام في الامتناع عن المشاركة في هذه الانتخابات، خاصة مع انضمام أهالي بلدة جرمانا إلى الحراك المناهض للنظام، الذين لم يعد بإمكانهم تحمل واقعهم الذي لا يطاق، وباتوا يعيشون في بؤس حقيقي، حيث لا ماء، ولا كهرباء، ولا فرص عمل، ولا خدمات من أي نوع. كما يسهم في زيادة مقاطعة الانتخابات أيضاً الأوضاع الأمنية المتردية التي تشهدها مناطق في محافظة درعا وريف دمشق وسواهما. أما في محافظة السويداء، التي تشهد حراكاً شعبياً مناهضاً للنظام لم يتوقف منذ أغسطس/ آب 2023، فهناك رفض شعبي واسع لها، حيث أطلق ناشطون في حراك السويداء حملات كثيرة لمقاطعتها، وقاموا برفع شعارات وتعليق لافتات على المباني العامة في مختلف قرى وبلدات المحافظة، تطالب الأهالي بعدم "مشاركة النظام وتسويق جرائمه في مجلس لم يخدم الشعب يوماً منذ عقود".
يعي السوريون في مناطق سيطرة النظام أن هذه الانتخابات تجري في ظروف لن تغير من حجم وواقع المعاناة من يعيشون بلا كهرباء، ويبرمجون حياتهم على مواعيد استلام أسطوانات الغاز المنزلي والمازوت، وينتظرون الفرصة كي يحصلوا على الخبز وسائر السلع الضرورية والمواد المقننة الخاضعة للدعم. كما يعلمون أن أياً من أعضاء المجلس لن يكون ممثلاً حقيقياً للشعب، وأنه منذ انقلاب الأسد عام 1970 لم يعد هناك أي حياة برلمانية أو سياسية حقيقية في سوريا، وبالتالي فكل الانتخابات، التي جرت وتجري منذ ذلك الوقت هي مهازل شكلية ولا قيمة لها.
لا تنحصر غاية نظام الأسد من إجراء الانتخابات في الإيهام بأن الأوضاع في سوريا لم تتغير منذ اندلاع الثورة السورية قبل أكثر من ثلاثة عشرة عاماً، وأن كل شيء فيها يسير على ما يرام، بل أيضاً تجديد وتوسيع قاعدة الموالين له، وتأكيد إخضاع كل من يسكن في مناطق سيطرته لهيمنته، عبر إظهارهم مختلف أشكال وطقوس الطاعة له، من خلال المشاركة الاجبارية في مختلف أشكال الامتثال الزائفة، ويشمل ذلك أولئك الذين يخترعونها والذين يستهلكونها أيضاً.