مما لا شك فيه أن قضية الإفراج عن عسكريي هيئة تحرير الشام المتهمين بالعمالة، ومحاولة استرضائهم عبر زيارات ودية من زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني شخصياً، تدل على حجم المأزق الكبير الذي وُضِع فيه الأخير، ومحاولته كسب ودهم قبل دخول الهيئة في نفق صراعات داخلية بين المعتقلين المفرج عنهم ومُعتقِليهم.
وأبرز ما يعكس ذلك مظاهر الاحتفال بخروج العسكريين من معتقلات جهاز الأمن العام التابع للهيئة، والتي تجاوزت مظاهر الاحتفال العادية، وبلغت مرحلة استعراض النفوذ الذي يتمتع به أولئك العسكريين بين عناصرهم وذويهم وعائلاتهم وحتى عشائرهم التي ينتمون لها، ومحاولتهم إغاظة خصومهم داخل الهيئة، وحتى زعيمها الجولاني شخصياً.
المأزق الكبير الذي وُضِع فيه الجولاني عند محاولته لملمة قضية العملاء عبر تقزيمها، دفعه لاتخاذ خيارات صعبة أبرزها الإفراج عن مدانين بالعمالة، بالإضافة إلى تشويه صورة جهاز الأمن العام أمام الحاضنة الشعبية، والحديث عن إعادة هيكلة أجهزة الأمن والشرطة، وذلك بمنزلة تفريط الجولاني بجهاز الأمن الذي عمل عليه طيلة سنوات عدة، وكان بمنزلة الكرت الرابح الذي يشهره في كل مناسبة، ويرسل من خلاله الرسائل للداخل والخارج.
جهاز الأمن العام
أُعلن عن تأسيس جهاز الأمن العام في العاشر من حزيران عام 2020، وذلك بعد عودة الهدوء إلى مناطق نفوذ الهيئة بتوقيع اتفاق بين الرئيسين بوتين وأردوغان بعد معارك امتدت على مدار تسعة أشهر، تقلصت خلالها منطقة خفض التصعيد الرابعة (إدلب وأجزاء من أرياف حماة وحلب واللاذقية) وخسرت ما يزيد عن 2300 كيلو متر.
تقلّص منطقة خفض التصعيد تسبب بموجات نزوح داخلي إلى الشريط الحدودي مع تركيا، ورسم ملامح جيب جديد يعيش حالة معقدة، فالمنطقة شهدت تغيراً شبه جذري في التركيبة السكانية نتيجة أعداد النازحين الكبيرة وتغيرت معالم قرى وبلدات بكاملها، ما ترك الباب مفتوحاً أمام خلايا تنظيم الدولة.
الواقع الجديد أوكل حينئذٍ للجولاني مهمة ترتيبه، وضبط المنطقة أمنياً كونه الحاكم الفعلي لها، الرجل الذي كاد يخسر نفوذه في إدلب بعد وصول قوات النظام وحلفائها إلى مشارف إدلب، واضطراره لفتح أبوابها أمام فصائل الجيش الوطني التي كان محرماً عليهم دخولها، فهم الدرس وعمل بجد على جهاز أمن "فريد من نوعه".
وسّع الجولاني جهاز الأمن في الهيئة وأطلق عليه اسم جهاز الأمن العام، وبات يعمل كجهاز استخبارات مركزي في هذه المنطقة المعقدة، ولم تقتصر أهدافه على البعد المحلي وإنما تجاوزت ذلك للتناغم مع الأولويات التركية في الملف السوري وتتناغم مع السياسة العامة بأن هيئة تحرير الشام ليست جبهة النصرة وأن الجولاني ليس أميراً في تنظيم القاعدة.
على الرغم من التبعية الكاملة للهيئة لطالما كان الجهاز ينفي تلك التبعية ويعتبر نفسه مؤسسة مستقلة.
في حديث سابق مع موقع تلفزيون سوريا قال المتحدث الرسمي باسم جهاز الأمن العام إن انطلاقة الجهاز كانت من "حاجة المجتمع لمنظومة أمنية موحدة لحفظ الأمن والأمان والإسهام في بناء وتنمية المجتمع والقضاء على الأخطار التي تحول دون ذلك". واتخذ الجهاز من وسم (#نحو_مجتمع_آمن) شعاراً له.
أيضاً عرف جهاز الأمن العام نفسه في فيديو إعلاني دعائي أطلقه عند تشكيله على أنه "مؤسسة أمنية منظمة تعمل على ملاحقة العملاء والمجرمين وتتركز مهامها في حفظ أمن الفرد والمجتمع بمؤسساته وفصائله ودورة حياته اليومية.. يخضع لرقابة شرعية تضبط سير الأحكام القضائية وفق آلية محددة".
ويضم الجهاز عدداً من الوحدات والمكاتب مهمتها "جمع البيانات والمعلومات عن المجرمين والرصد ومتابعة الأحداث والمراقبة وتنفيذ مهام التوقيف والتحقيق".
يضم جهاز الأمن العام وحدات متخصصة بملفات محددة وهي:
- ملف النظام
- ملف الخوارج
- ملف الجريمة المنظمة
- قسم الأمن الداخلي
- مكتب معلومات المنطقة
- مراكز المراقبة ومتابعة الحركة اليومية
- شعبة جمع المعلومات والاتصالات
- مكتب الادعاء
رسائل ناجحة إلى تركيا
وفيما يخص الرسائل الموجهة للخارج نجح الجهاز نجاحاً ملفتاً، فمنذ تأسيسه وفي أول مقطع إعلاني مصور، زج المتحدث الرسمي باسم الجهاز بـ "حزب العمال الكردستاني" كهدف ومهمة للجهاز، إلى جانب عملاء النظام وخلايا تنظيم الدولة وعصابات الجريمة المنظمة، في إشارة إلى غايات سياسية أبعد من الأمن المحلي، كالتناغم مع الأولويات التركية في الشأن السوري.
وعرض الجهاز أول قضية أمنية تم الكشف عنها في مطلع 2020 لخلية مكونة من زوجين جندا لتنفيذ أعمال تفجير بدعم من حزب العمال ومخابرات النظام، وكان نطاق عمل الخلية التي عرفت بخلية ياسين الخلفية وزوجته هو مناطق سيطرة الجيش الوطني وأكدت اعترافاتهما التي بثها جهاز الأمن العام أن القواعد التركية ومقار الجيش الوطني كانت أهم أهدافهما للقيام بالتفجيرات.
وفيما بعد، أعلن جهاز الأمن العام مرات عدة عن إحباطه تهريب كميات كبيرة من المخدرات المعدة التهريب إلى إدلب وتركيا وحتى بلدان أخرى، كان أبرزها في آذار 2021 حين أعلن عن ضبط مليوني حبة مخدرة قادمة من ريف حلب الشمالي (مناطق سيطرة الجيش الوطني) إلى إدلب، وكانت في طريقها إلى الموانئ التركية ثم السعودية.
وكان ذلك بمثابة رسالة أخرى لتركيا بأن الهيئة عبر جهازها الأمني تحمي تركيا من تدفق المخدرات، وأن وجود الهيئة لن يجعل تركيا تعاني ما يعانيه الأردن في ملف المخدرات، وكذلك تسجيل نقاط على فصائل الجيش الوطني، الذي تشهد مناطقه حالة فوضى عارمة، تتمثل بوقوع تفجيرات بين الفينة والأخرى، فضلاً عن انتشار تجارة وتعاطي المخدرات بكثرة فيها.
أيضاً في حزيران 2022 أعلن جهاز الأمن العام القبض على معظم أفراد وقيادات "سرية أنصار أبي بكر" بعد عمليات أمنية مكثفة، وقد نفذت سرية أنصار أبي بكر عشرات العمليات وكان أبرز أهدافها الجيش التركي، والذي استهدفت أرتاله مرات عدة وبأسلحة وطرق مختلفة من بينها استهداف رتل تركي بسيارة ملغمة، بالإضافة إلى مهاجمة قاعدة تركية أخرى بسيارة ملغمة، فضلاً عن وسائل المهاجمة المتنوعة الأدنى من ذلك.
كل تلك العمليات والتفجيرات أجبرت الجيش التركي على تغيير خط إمداد قواته في عمق إدلب لفترة زمنية قصيرة، انتهت مع تأمين تحرير الشام للطريق وإمساك جهازها الأمني بمعظم أفراد السرية.
مؤسساتية دعائية وواقع مخيف
ركز الجهاز على إظهار حالة عالية من المؤسساتية في إصداراته وتصريحاته، بما يشمل أيضاً آليات تحول المعلومة إلى مهمة اعتقال بإذن موقع من المدعي العام وصولاً إلى تقديم القضية إلى القاضي وصدور الحكم بحق المتهم.
أيضاً في حديث سابق مع موقع تلفزيون سوريا أوضح المسؤول الشرعي في الجهاز أحمد عبد المعطي أنه "بعد ورود المعلومات إلى الجهاز تُحال القضية إلى الجهة المختصة بنوع الجريمة وتتقدم بطلب الحصول على إذن الاعتقال أو التفتيش للادعاء العام، وينظر المدعي العام إلى الأسباب، فإذا كانت شرعية ومعتبرة يصرح ويحدد الطريقة كتفتيش المنازل والأغراض الشخصية، ثم تتحرك الجهات التنفيذية لاعتقال المتهم ويحال الموقوف إلى مكتب التحقيق الذي يعمل على مرحلتين، الأولى أولية والثانية تحقيق موسع إذا أحاطت التهم بصاحبها".
وأكد عبد المعطي آنذاك أنه "لا يمارس أي ضغط على المتهم إلا بعد الحصول على إذن شرعي".
وأضاف: "تحال القضية ونتائج التحقيق إلى الادعاء العام الذي ينظر في القضية وما وصل إليه المحققون فإذا لم تثبت التهمة يخلى سبيل الموقوف وإذا كانت الأدلة غير كافية يخلى سبيله وتبقى القضية مفتوحة وإذا كان مداناً فإن المدعي العام يقابل المتهم وبعدها يقوم بتوصيف الجريمة توصيفاً شرعياً صحيحاً ويحدد الوسائل التي ثبتت بها الجريمة ويطالب بصفته نائبا عن العامة بالعقوبة الشرعية المناسبة للجرم ثم يحيل القضية إلى القاضي للحصول على موعد للمحاكمة".
في الموعد المحدد يمثل كل من المدعي العام والمدعى عليه بوصفهما خصمين أمام القضاء ويسمع القاضي الدعوة ويسمع إجابة المدعى عليه ويعطيه الوقت الكافي للدفاع عن نفسه بعدها يدرس القاضي القضية ثم يصدر الحكم الشرعي المناسب لها.
على أرض الواقع يبدو الأمر مختلفاً اختلافاً كبيراً، فقد بات جهاز الأمن العام جهاز قمع آخر، مشابه لأجهزة القمع التي زرعت الرعب في نفوس السوريين خلال حكم الأسدين الأب والابن في سوريا، وبات كثير من سكان إدلب يستحضرون مشاهد سيارات الشبيحة عند مرور سيارات الأمن العام وهي تتجه إلى مداهمة ما أو لاعتقال مطلوب ما، خاصة مع تكريس ذات الممارسات الأسدية، من إطلاق صفارات الإنذار بشكل مدوٍ وخروج بعض العناصر من أبواب السيارات في أثناء مسيرها، واصطحاب رشاشات متوسطة لتنفيذ أبسط المهام، وهي ما اعتبرها مراقبون تكريس لزراعة الخوف في نفوس السكان، وإطباق الحكم عليهم بالحديد والنار، وأصبح أصحاب البزّات السوداء مصدر رعب لسكان الشمال السوري، على الرغم من تسميتهم بـ"درع المحرر".
أما في السجون، حيث لا يوجد فصل بين سجون الهيئة وسجون الأمن العام وسجون وزارة الداخلية التابعة لحكومة الإنقاذ، فهناك ممارسات وانتهاكات ووسائل تعذيب يجمع كل من مورست عليهم بأنها ممارسات مشتقة من "مسالخ النظام البشرية"، وذلك فضلاً عن اعتقال المخالفين بالرأي أو الكلمة وبقائهم لأشهر دون محاكمات، وقد خرج فعلاً العديد منهم دون عرضهم على القضاء، بينما خرج آخرون فور عرضهم على القضاء براءة، مما يعني قضاءهم فترة سجن طويلة دون داعي، فضلاً عن الفساد القضائي وتأخر البت في القضايا.
لطالما أنكر الجولاني وجود معتقلي رأي في سجونه، ولطالما أنكر وجود التعذيب فيها، لكنه وجد نفسه اليوم مضطراً للبوح بذلك علانية من أجل إيجاد مخرج للمأزق الذي وجد نفسه فيه، فهو عاجز عن مصارحة العامة بحجم العملاء الكبير داخل الهيئة وفي جميع مفاصلها، ويتجنب تنفيذ محاكمات علنية بسبب اعتقال "تيار بنش" المقرب منه كثيراً من المناهضين له داخل الهيئة تحت شماعة العمالة.
الجولاني يرفض حل جهاز الأمن العام
بعد أن أقر الجولاني بوجود التعذيب في سجونه، بدأ حملة للنظر في القضايا وإعادة التحقيق فيها وتسريع المحاكمات، وصف المقربين تلك الخطوة بأنها "حملة تبييض السجون"، إلا أن مراقبين اعتبروا أن الجولاني ما زال يراوغ، معتبرين أن عملية الإفراج عن المعتقلين انتقائية.
وبحسب مطلعين فإن جميع من أفرج عنهم الجولاني من العسكريين يعودون إلى خلفيات عائلية وعشائرية كبيرة، وأن عدد المفرج عنهم حتى الآن لم يتجاوز الخمسين شخصاً، بينما بلغ عدد من اعتقلهم بتهمة العمالة قرابة الألف.
في الجانب الآخر وبعيداً عن عسكريي الهيئة، رصد موقع تلفزيون سوريا إفراج هيئة تحرير الشام عن الناشط الإعلامي علي علولو الذي اعتقله الأمن العام في أيار من العام الماضي، متهماً علولو بالعمل لصالح حزب التحرير، دون محاكمته علانية، ودون عرض أدلة تثبت الاتهامات الموجهة له.
ويرى متابعون أن الإفراج عن علولو جاء بهدف تمرير رسالة إعلامية حول إفراجه عن معتقلين آخرين غير عسكريي الهيئة، لكون علولو إعلامياً وخبر الإفراج عنه له صدى في الوسط الإعلامي.
بعد إفراج الجولاني عن العسكريين المتهمين بالعمالة ومحاولته كسب ودهم وجهت له طلبات عدة بحل جهاز الأمن العام بشكل نهائي، وتوسعة صلاحيات وزارة الداخلية، لكن الأخير رفض ذلك، وقد اضطر لتسليم بعض المحققين والسجانين العسكريين بعد تهديدات طالته شخصياً.
يجمع كل من تحدث إليهم موقع تلفزيون سوريا من متابعين بأن الجولاني لن يحل جهاز الأمن العام، لكنه سيجري تغييرات عدة في المناصب تشمل كل من مسؤولي الجهاز، ووزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ وعلى رأسهم وزير الداخلية، معتبرين أن الجولاني وإن اضطر لتوجيه ضربة للجهاز وتحميله كامل المسؤولية عما جرى، إلا أنه لن يتخلى عن أبرز أدوات القمع التي يكرس بها سلطته.