يشار على نطاق واسع إلى أن عالم اليوم هو عالم المصطلحات التي تتولد وتتداول باستمرار في شتى مناحي الحياة؛ إلا أن تلك الحالة الهلامية الطابع لا يمكن أن يتم سحبها على حالات وميادين معينة، ومن أبرزها المصطلحات القانونية، كتلك المصطلحات في حقل القانون الدولي، التي تبدو ذات مدلولات متفق عليها غالباً؛ وكذلك في ميدان التفاعل السياسي الدولي، إذ يتم انتقاؤها بعناية وروية على لسان الدبلوماسيين والدول.
يقصد بالمصطلح عموماً بأنه "وصف ثابت لتعريف يوضح المعنى" وأنه "يركِّز على الدلالة اللفظية للمفهوم" وعلى هذا النحو، بات هنالك مجموعة من المصطلحات الثابتة في العلوم الإنسانية لها مدلولات واضحة ومنها (الأوتوقراطية، الأزمة الدستورية، الاستفتاء، البراغماتية.. إلخ)، بل، أصبحت تصنّف وتقدم ضمن معاجم ودراسات.
مع بداية المسار الأممي عبر بيان جنيف 1 تم بناء رؤية تحت مصطلح عام هو الحل السياسي في سوريا برعاية دولية، كنقيض واضح للحسم العسكري على الأقل
في الحالة السورية وبعد أن دخلت قضية الشعب السوري في دهاليز الحل السياسي الدولي رسمياً منذ عام 2012 على الأقل، مُورست لعبة مستمرة على صعيد المصطلحات، وما بني عليها من نتائج ومسارات انحرفت في كل مرة باتجاه رؤية نظام الأسد وحلفائه.
مع بداية المسار الأممي عبر بيان جنيف 1 تم بناء رؤية تحت مصطلح عام هو الحل السياسي في سوريا برعاية دولية، كنقيض واضح للحسم العسكري على الأقل، وحاملاً في جوهره فكرة مصطلح الانتقال السياسي الذي يتطلب بالضرورة هيئة حكم انتقالية، تقود هذا الانتقال مع تفسيرات ومواقف تمسّكت بعدم وجود نظام الأسد في هذه الهيئة.
في المرحلة اللاحقة، بقي مصطلح الحل السياسي وبرعاية دولية، صامداً مع تراجعات في كيفيته، ليتوسع معنى الانتقال السياسي من كونه تسليم نظام الأسد للسلطة عبر هيئة حكم انتقالية إلى هيئة حكم ذات مصداقية وشاملة للجميع وغير طائفية، ليفتح المصطلح الجديد منذ القرار 2254، فكرة وجود الأسد في مرحلة انتقالية وولوج نظامه كشريك في الهيئة الشاملة للجميع بمعنى أو بآخر.
لتأتي حقبة مسار أستانا التي أُعلنت كمسار أمني وعسكري، لتصبح مدخلاً لإنشاء اللجنة الدستورية ولتكسر عملياً دلالة الحل السياسي برعاية دولية أممية، إلى الرعاية السياسية والعسكرية لإنتاج الحلول خارج المسار الأممي.
استمر التمسك بمصطلح الحل السياسي والمرجعية الدولية شكلياً على الأقل، من غالبية الفاعلين المحليين والدوليين، باستثناء نظام الأسد وحلفائه، والذي كان يركز من اليوم على مصطلح بديل هو "المصالحة الوطنية"، الذي ارتكز في جوهره على فكرة "الحوار تحت سقف الوطن" والقضاء على الإرهاب المتمثل بجميع قوى الثورة والمعارضة، وعلى وجود "معارضة وطنية شريفة".. وجاءت باكورة تطبيقاتها من خلال مؤتمر الحوار الوطني في دمشق ونسخه الفرعية في المحافظات منذ منتصف عام 2011، ومن ثم تشكيل وزارة خاصة تحت ذات المسمى بالمرسوم التشريعي رقم 210 لعام 2012، والتي عملت على إعادة تدجين الأفراد والقوى في المناطق المحاصرة أو التي تم اجتياحها عسكرياً.
بقي هذا المصطلح يقظاً رغم مرور السنين، إذ تم استحضاره في مؤتمر سوتشي والذي سمي بمؤتمر الحوار الوطني السوري في 2018، وكذلك استمر نظام الأسد في تقديم مصطلحه بين الحين والآخر كرؤية شاملة "بديلة" لفكرة الحل السياسي، وعبر تطبيقات عملية في المدن والبلدات التي تم اجتياحها، وتطبيق ما يعرف بنموذج "المصالحات الوطنية" في حمص وحلب والقلمون.. وآخرها بعد اجتياح الجنوب السوري، والتي تتضمن نهجاً واحداً هو قتل وتشريد ونهب ممتلكات الرافضين وإجراءات تسوية تضمن العفو لمن يقبل بالنموذج من حيث النص، أما من حيث التطبيق فتشير بالطبع لعمليات الاعتقال والقتل والاغتيال والنهب التي أشارت إليها مئات التقارير الحقوقية.
لنعيش اليوم في ظل مرحلة جديدة، تظهر صراع المصطلحات ومدلولاتها؛ إذ جاء البيان الأخير المشترك الصادر عن المملكة العربية السعودية ونظام الأسد، خاليا من الإشارة إلى المرجعية الدولية أو قرار مجلس الأمن عند ذكره للحل السياسي في سوريا، تمهيداً لإيلاج مصطلح "المصالحة الوطنية" في متن الأهداف والغايات القادمة، في مؤشر خطير على كيفية وخطوات هذا الحل بالرعاية العربية.
المصطلحات السياسية ليست خطيرة فقط، وإنما كانت وماتزال إحدى أهم الوسائل لتشويش الرأي العام وخاصة المعني بالقضية السورية
تكرر ذلك المصطلح الذي يتم استخدامه إلى جانب مصطلحات أخرى، كحل سياسي وتسوية وتحقيق السلام، في عملية تستهدف تمريره أمام الرأي العام، وصناعة مزاج عام قابل له؛ في تصريحات وزير الخارجية السعودية في أثناء زيارته مؤخراً إلى دمشق.
ما يؤكد أن المصطلحات السياسية ليست خطيرة فقط، وأنها كانت وماتزال إحدى أهم الوسائل لتشويش الرأي العام وخاصة المعني بالقضية السورية، هو ما يظهره البيان الختامي لمؤتمر جدة التشاوري بين مجلس التعاون +3، إذ أدت الخلافات حول الملف السوري نتيجة وجود دول رافضة للمقاربة الجديدة وفي مقدمتها قطر إلى زوال مصطلح "المصالحة الوطنية" وتثبيت مصطلح الحل السياسي رغم عدم إسناده إلى القرارات الدولية ذات الصلة، وهو ما يشير بوضوح إلى حجم التفاوض حول كل كلمة ومصطلح يتم إدراجه.
وبناءً على ما سبق فمن واجب السوريين وخاصة النخب رفض الانجرار وراء موجة هي الأخطر من لعبة المصطلحات، ولا بد من وجود وعي حول مدلولاتها ونتائجها التي ستكشف عنها مهما تم تغليفها أو محاذاتها بعبارات أخرى، ساحرة ورنانة.