لطالما كانت الدراما وخاصة العربية منها انعكاساً للرؤى السياسية السائدة وأحد أدوات صناعة الرأي العام، وخاصةً في القضايا التاريخية والسياسية الساخنة، التي تثير حماس المشاهد، وبهذا المعنى، غالباً ما كانت المسلسلات التي تتناول مراحل هامة أو شخصيات هامة؛ تسعى لإظهار ما تطرحه من أعمال كحقائق تم كشفها للجمهور مع شيء من الضرورة الدرامية والفنية، مستندةً إلى مجموعة من الكتابات أو الشخصيات التي ترجح وقوع الأحداث وطريقتها وتحسم معاني الوطنية والخيانة، وغيرها.
بغض النظر عن ضرورة هذه الحالة أو اختلاف موضوعيتها من عمل درامي إلى آخر، ودرجة تأثير السلطة عليه أو غيابها من الأصل؛ في حالة مسلسل ابتسم أيها الجنرال، والذي نال اهتماماً واسعاً من السوريين والعرب، رغم الانقسام في تقييمه أو وجود انتقادات عديدة له، فإن سؤالاً هاماً يتبادر إلى الأذهان، لماذا لم يسر المسلسل على ذات الخط من حيث تقديم عمل وثائقي الطابع يكشف حقائق بمسمياتها ويتعرض للمواقف والأحداث بذاتها؟ خاصة مع غياب الجدوى من فكرة التمويه أو الخوف من الاصطدام المباشر مع نظام الأسد وأذرعه المخابراتية، وسهولة الوصول إلى الوثائق والشهود والأحداث المفصلية الكبرى، كالتي يتطرق لها المسلسل حالياً من صراع الأخوين في الثمانينيات أو قصة التوريث أو إدارة التوحش والمعتقلات وتجنيد التنظيمات الراديكالية، وصولاً لمقتل الحريري.. إلخ، وعلى الأقل بذات المرجعية التي يتم الاستناد إليها عادةً في الأعمال الدرامية الشبيهة، كالكتب والمذكرات والشهود الأحياء وما أكثرهم في الحالة السورية، على عكس ما يعزو البعض.
هكذا طريقة في تناول الأحداث الساخنة بطريقة الإسقاط والإيحاء يدفع الجمهور للقيام بدورهم في البحث والتحري والقراءة والمحاكمة العقلية
في ظل صمت مُعدّي العمل والقائمين عليه عن الإجابة على هذا السؤال، الذي يعد أحد أكبر الانتقادات الموجهة، من قسم من الجمهور والمتابعين الذين كرهوا الإسقاطات والإيحاءات وأرادوا عرضاً مباشراً لشخوص النظام وتصرفاته كما جرت العادة؛ أعتقد أن نموذجاً فريداً من نوعه يحدث مع العمل الحالي.
يتمثل هذا النموذج وبغض النظر عن الغايات التشويقية والفنية وتحرره من أعباء الجدل التاريخي والإثبات من وجهة نظري في عكس النمط السائد؛ بمعنى أن هكذا طريقة في تناول الأحداث الساخنة بطريقة الإسقاط والإيحاء يدفع الجمهور للقيام بدورهم في البحث والتحري والقراءة والمحاكمة العقلية، لمختلف النقاط التي تمت إثارتها، بدلاً من الحصول على المعلومة "الحقيقة" كاملةً تامةً مقدمة من قبل فريق العمل.
وبطبيعة الحال فإن البحث عن كل جزئية من الجزئيات وبغض النظر عن الحقائق الكلية كوحشية نظام الأسد ومنظومته الأمنية وتحويله الوطن السوري إلى مزرعة وطريقة عبثه بالملفات الإقليمية وصناعة التطرف؛ ستؤدي إلى قراءات من زوايا عديدة تكمن فيها اختلافات ما، يؤكدها البعض وينفيها البعض.. إلا أنها حالة طبيعة، بل ومطلوبة من الشارع الذي يجب ألا يستسلم للرواية الواحدة.
الحقيقة بالمعنى الوثائقي الذي يطمح إليها السوريون يوماً، ستكون بكل تأكيد بعد سقوط نظام الأسد، وبعد عمل لجان تخصصية تكشف الوثائق وتظهر لربما خفايا أكبر بكثير
بناءً على هذه القراءة: أستطيع أن أتخيل اللحظة التي ستأتي في نهاية العمل والتي سيقول فيها القائمون عليه، لم نلجأ لهذه المحاكاة خوفاً من نظام الأسد بكل تأكيد، لأن أي متظاهر في سوريا في يوم من الأيام يدرك أنه بمجرد رفض هذه المنظومة سيكون مشروع "شهيد"؛ وليس لأننا عجزنا عن الاستناد لما يكفي من المراجع التي تغطي أحداث العمل، وتجعلنا نستطيع أن نجادل من يرفض أي مشهد منه؛ ولكن، لأننا أردنا ألا نحتكر الحقائق وأن نفتح الباب لتتبع كل تلك المحطات والوصول إلى القدر الكافي من القناعة.
بذلك، يمكن القول إن الإبداع في هذا العمل تمثل في الإشارات التي يتضمنها وفي الأبواب التي يقرعها وفي سياسة تحفيز الأذهان، أما الحقيقة بالمعنى الوثائقي الذي يطمح إليها السوريون يوماً، فستكون بكل تأكيد بعد سقوط نظام الأسد، وبعد عمل لجان تخصصية تكشف الوثائق وتظهر لربما خفايا أكبر بكثير مما يمكن لعمل أو سلسلة أعمال كشفها.. عندها لن يختلف أحد بطبيعة ما حصل وإن اختلفوا في تأويله وتفسيره كما حصل مع مجرمين كبار آخرين كفرانكو إسبانيا وبينوشيه تشيلي.