ربما كانت لعبة البازل من أكثر اللعب إمتاعاً حين كنا صغاراً، كثيرة الألوان وتساهم في خلق مناخ جديد فكريّاً بما تحفزه من تحليل وتركيب في وظائف الدماغ.
لكن مسألة القياس بكمية الإمتاع تتنحّى جانباً ليحل محلّه القياس بمقدار الألم حين تصبح هذه اللعبة أداة من أدوات الكبار في حروبهم، ذلك أنها لا تُفكّك لوحة أو رسوماً ملونة هذه المرة بل تُقطّع أوصال أوطان، لنقوم وتعيد تركيبها بما يتناسب مع خططها.
إنها ليست سايكس بيكو جديدة -وليتها كانت كذلك- فاللعبة هذه المرة لا تقتصر على تقسيمات سياسية جديدة أو إنشاء دول وإزالة أخرى، لقد تغيرت استراتيجيات وسياسات اللعبة العالمية الآن فصارت تعمل على تغيير بنية السكان بحيث يؤدي ذلك إلى اختلال التوازنات الإقليمية ما يجعل من السهولة بمكان إحكام السيطرة على المنطقة دون اللجوء إلى التقسيم الذي أصبح حلّاً عفا عليه الزمن.
لقد تغيرت إستراتيجيات وسياسات اللعبة العالمية الآن فصارت تعمل على تغيير بنية السكان بحيث يؤدي ذلك إلى اختلال التوازنات الإقليمية ما يجعل من السهولة بمكان إحكام السيطرة على المنطقة دون اللجوء إلى التقسيم
في تاريخها الحديث تعرضت سوريا لتبدّلات كثيرة في التركيبة السكانية بعد انهيار الدولة العثمانية ونهاية الحرب العالمية الثانية أو ما نتج عن الانتداب الفرنسي، غير أن المجتمع السوري كان ما يزال قوياً وقادراً على استيعابها فكان لتلك التغيرات آثار إيجابية منها أن المجتمع السوري تميز بغنى وتنوع ديني وثقافي فريد من نوعه في العالم جعل من سوريا بلداَ مزدهراً متطوراً في مطلع الخمسينات وحتى نهاية الستينات.
دعم ذلك التطور الموقع الجغرافي المتميز وتنوع المناخ اللذين شكّلا داعماً اقتصادياً متيناً لقيام نظام اقتصادي متكامل حتى مطلع الستينات حيث انقلاب الثامن من آذار 1963 الذي مهد لبداية العمل على تغيير بنية المجتمع.
كانت حلقات مسلسل التهجير مدروسة لتغيير تركيبة السكان الموجودة في سوريا، وكان ذلك من أهم أهداف نظام البعث، فانتهج لنفسه عدة وسائل بداية من ترييف المدينة وإعادة توزيع الثروة الزراعية في مطلع الستينات انتهاءً باندلاع الثورة السورية عام 2011 إذ استهدف النظام المناطق الحاضنة للثورة والتي تذرع ومناصروه أنها كانت حاضنة للإرهاب.
فمنذ تهجير سكان حمص القديمة والسلسلة ترتبط بعضها بالبعض الآخر بحلقات متصلة متباعدة أو متقاربة وفق مخطط جغرافي مدروس حيث كانت المحطة التالية هي "القصير" ثم تلتها عمليّة التهجير القسريّة لأهالي بلدتي مضايا والزبداني في ريف دمشق الغربي إلى محافظة إدلب في شمالي سوريا في واحدة تُعدّ من أكبر عمليات التغيير الديموغرافي، بعد حصار وتجويع دام سنوات.
أحداث ريف حمص الشمالي انصبت في البوتقة ذاتها حيث تم تهجيرهم للشمال السوري إضافة لما حدث في "داريا" المعروفة بأنها أيقونة السلمية في الثورة والمعضمية والغوطة في ريف دمشق والمعارك المحتدمة في حلب الشرقية، وكان آخرها ما حدث في حي الوعر في حمص.
استهدف النظام المناطق الحاضنة للثورة بحجة القضاء على الإرهاب فمارس ضدهم كل أشكال الاعتقال التعسفي والمجازر الوحشية التي طالت مناطق وعائلات بأكملها.
لقد شهدت المناطق الحاضنة لقوى الثورة معدّلات نزوح ضخمة طلباً للأمن ولأسباب كثيرة مثل تراجع سبل المعيشة وانعدامها في معظم الأحيان وتراجع الخدمات الأساسية كالطب، والتعليم، والطاقة، وتعذر وصول المساعدات الأممية للمحتاجين في المناطق المحاصرة وانعدام الأمن وتفشي الفصائلية لدى بعض القوى المحلية.
ثم أمعن النظام في تغيير هوية البلاد الثقافية فمنح الجنسية السورية للمقاتلين الإيرانيين ومقاتلي حزب الله ومنحهم ملكيات خاصة في الأراضي السورية
ثم أمعن النظام في تغيير هوية البلاد الثقافية فمنح الجنسية السورية للمقاتلين الإيرانيين ومقاتلي حزب الله ومنحهم ملكيات خاصة في الأراضي السورية ناهيك عن القيام بسنّ تشريعات قانونية تجرد المغتربين من ملكياتهم ضمن شروط محددة.
للوهلة الأولى يبدو ما حدث خلال سنوات التي انقضت من عمر الثورة أمراً طبيعياً ومشروعاً في حالات الحروب الكثيرة التي تشتعل بها الكرة الأرضية، ولكن الفاجعة تبدو أكثر وضوحاً لدارسي علم الديمغرافيا من خلال تغير نسب السكان بعد الحراك الثوري فالأرقام ودراسات الأمم المتحدة في مطلع الألفية الثالثة تشير إلى وصول عدد سكّان سوريا لـ 22.6 مليون نسمة مع نهاية عام 2015 وذلك بفضل معدل نمو %سكّاني شبه ثابت يبلغ 2.5، إلّا أننا نقف اليوم على مشهد مختلف تماماً حيث تشير الإحصائيات إلى انخفاض عدد سكّان سورية إلى ما دون 70% من الأرقام المتوقعة، وبمعدل نمو يقدّر بـ 0.3% فقط.
ليس سراً أن ارتفاع معدّلات الهجرة هو السبب الرئيس لتراجع عدد سكّان البلاد، إلّا أن انخفاض معدّلات الولادة، وارتفاع معدل الوفيات يشيران بدورهما إلى الأثر المباشر للحرب على معدّلات النمو السكانية في البلاد.
لا تكشف الإحصاءات المتوفرة عن تغير كبير أصاب تركيبة البلاد القومية الطائفية، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي حدوث انزياحات سكّانية واسعة النطاق. فعلى الرغم من صعوبة الحصول على أعداد دقيقة للنازحين داخلياً، تشير البيانات المتاحة إلى نزوح 6.5 مليون سوري. ويشمل هذا العدد حوالي مليوني شخص نزحوا من مناطق سيطرة قوى الثورة إلى مناطق سيطرة النظام، وملايين آخرون فروا من مناطق يسيطر عليها النظام إلى أخرى بسبب القتال العنيف.
الكعكة ليست كبيرة بما يكفي لتسد أفواه الذئاب المفترسة التي تنهش أطراف البلاد لكن ذلك لا يمنع من محاولة كل منهم الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب حتى لو كان الثمن جعل تلك البلاد بقعة مشتعلة على الخارطة والإبقاء على أبنائها رحلا في مختلف أصقاع الأرض دون أن يحطّوا رحالهم في وطن – بديل- واعتبار كل ما قدم لهم من مشاريع توطين ما هو إلا نسخة مشوهة من وطنهم الأم.
الكعكة ليست كبيرة بما يكفي لتسد أفواه الذئاب المفترسة التي تنهش أطراف البلاد لكن ذلك لا يمنع من محاولة كل منهم الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب
الجدير بالذكر أن داعش التي يسوّق لها (البعض) على أنها جزء من الثورة كانت لاعباً أساسياً معهم في تلك اللعبة، وكانت مساهماً لا يستهان بما قام به من أعمال في تنفيذ مخططاتهم من فك القطع وإعادة تركيبها لترسم لوحة جديدة تتناسب مع مخططهم في المنطقة.
من جانب آخر يعتبر دور الأمم المتحدة والمجتمع الدولي سلبياً على أقل تقدير إذا لم يتعدّ ذلك في مواضع معينة ليصل إلى موضع المتواطئ حيث كانت راعياً رسمياً لكثير من حلقات تهجير السكان من مدنهم أو قراهم وكأنها تضفي على الأمر صفة الشرعية.
رافق ذلك صمت دولي مطبق بعدم وجود أي قرار أو تصريح بإدانة هذه الأعمال من مجلس الأمن.
من نافلة القول أن اللعبة لم تنته بعد، وأن اللاعبين الدوليين مهما تغيرت مواقعهم أو تبادلوها فإن مهمة كل طرف منهم واضحة والنتيجة المؤسفة هي إحداث تغيير في بنية المجتمع السوري وخلخلته وتمزيق نسيجه يترافق مع ضبابية وعدم وضوح تامٍ للصورة من أجل العمل على إعادة تركيب قطع البازل المشرذمة في أماكنها المناسبة.