منذ أكثر من نصف قرن انطبق على السوريين المَثَل القائل "كالأيتام على موائد اللئام". خيرات بلدهم، وجهودهم تذهب إلى جيوب طغمة استبدادية؛ عيشهم وحقهم الطبيعي يحصلون عليه بشق النفس، وكأنه مِنّة ومكرمة من "القيادة". إذا تعلموا، فبفضل مدارس القائد؛ تفوقهم بسببه ويهدونه للأب القائد. خبزهم من قمحه وأفرانه، والفلاح مسحوق وجهده تنهبه العصابة. وقودهم وكهرباؤهم ومواصلاتهم هو الذي وفرها!
سرقات تلك القطاعات ملأت بنوك الخارج لحساب الطغمة الحاكمة. أما ملح وبهارات العيش فهي الإذلال والاعتقال وامتهان الكرامة والمزايدة في "المقاومة والممانعة" الخلبية. كل ذلك حتى قامت ثورة 2011، فواجه صرخة الحرية بالحديد والنار واستدعاء الاحتلال.
قاوم السوريون بقدر ما استطاعوا. تدخلت دول كثيرة بقضيتهم، جهات لصالح الشعب، وأخرى إلى جانب "النظام". الأولى سمّت نفسها "أصدقاء الشعب السوري"؛ فما تعرّض له هذا الشعب على يد سلطته، قل نظيره بشاعة. والثانية ناصرت هذه السلطة تحت يافطة سيادة الدولة ووحدتها وحفاظاً على "المقاومة والممانعة" ومواجهة للمؤامرة الكونية على سوريا. رغم أن الثانية المتمثلة بإيران وروسيا كانت الأوفى لحليفها؛ بقي هاجس الفئتين مصالحهما فوق كل اعتبار، وبقي السوريون كالأيتام على موائد اللئام.
أكثر من مئة دولة سمّوا أنفسهم "أصدقاء الشعب السوري"، حيث رأوا بأم أعينهم وحشية النظام تجاه "شعبه"؛ ولكن مواقفهم كانت أقرب إلى الشفقة من أفعال حقيقية لوقف المأساة. لقد تمّت مخاطبتهم عشرات المرات كي ينهوا عضوية هذه العصابة في الأمم المتحدة، وليستوعبوا أن الصراع بين شعب يريد الحرية ومنظومة استبدادية قتلت وشردت شعباً، وليس بين معارضة وسلطة حاكمة، ويطبقوا القرارات الدولية بشأن سوريا. بعض تلك الدول كانت تمنن السوريين حتى بسلة غذائية وبخيمة لنازح.
"ذوو التفكير المتشابه" المعنيون بالقضية السورية (بينهم دول عربية، كان هاجسها ألا يمتد ما يحدث من صوت الحرية إلى بلادها) اهتموا باحتواء ما يجري، لا بوقف محرقة مستمرة بحق ملايين السوريين..
"ذوو التفكير المتشابه" المعنيون بالقضية السورية (بينهم دول عربية، كان هاجسها ألا يمتد ما يحدث من صوت الحرية إلى بلادها) اهتموا باحتواء ما يجري، لا بوقف محرقة مستمرة بحق ملايين السوريين. كان دور الفاعلين بينهم تصفية حسابات وتحقيق مصالح، وكأن سوريا وشعبها /مكسر عصا/، وبعضهم كأميركا كانت دمغة، جعلت أبواق منظومة الاستبداد تنعت السوريين بالعملاء، عملوا على إدارة المأساة لا المساهمة الفعلية بحلها؛ فليتهم تركوا الأمر بين ثورة السوريين وهذه المنظومة الاستبدادية الجبانة دون تدخلهم، لكان الخلاص منذ زمن.
تركيا التي كانت الأقرب إلى السوريين في محنتهم، وصفتهم بدايةً بالمهاجرين، واعتبرت أهلها الأنصار، اتخذت من "الائتلاف" - كجهة رسمية - أداةً تنفذ بها جزءاً من أجندة سياستها الخارجية. وما شعر أعضاؤه يوماً إلا بالدونية؛ ومن جانبهم تعامل هؤلاء الأعضاء المرتهنون مع السوري بكثير من اللؤم والأنانية والصِغَر واللامسؤولية؛ ليجد الجميع أنفسهم على مائدة لئام.
صحيح أن كثيرين ممن مثّل القضية كانوا صغاراً، ولكن الجهة الرسمية التركية سحبتهم إلى حيث يجب ألا يكونوا، أكان في أستانا أم في سوتشي أم في ليبيا. وها هي الآن تمد يدها باتجاه مَن وصفته يوماً مجرماً وقاتلاً. فأي مائدة لئام هذه!
من جانب آخر، وعبر أخذه سوريا رهينة، وبيعه لمقدراتها ومواردها للإيراني والروسي، تصوّر نظام الأسد بأنه يستطيع أن يجلس إلى المائدة كـ"نِدٍ" لتلك القوى التي أبقته على الكرسي. ولكن يتمه كان أكبر بكثير، وما كان يوماً تجاه مَن حمى كرسيّه إلا ذليلاً، يكفي شُحن رأس النظام إلى حيث يريد بوتين، ومنعه من استعراض القوات في حميميم. وإيران من جانبها تملي عليه ما لم يفعله احتلال يوماً.
ويبقى المساهم الأكبر في استنفاع القضية السورية واستمرار مأساة شعبها تناقض المصالح بين الفرقاء المتدخلين احتلالياً؛ حيث تحوّلت سوريا بمجملها إلى حلبة للصراع البيني والمتعدد الأطراف لتصفية الحسابات، وتنفيذ المصالح على حساب مأساة هذا الشعب. روسيا المترنحة في أوكرانيا والمخنوقة من الغرب تدفع بتركيا، التي أفشل الآخرون عمليتها العسكرية في الشمال الشرقي السوري؛ تركيا من جانبها تعرف ما تريده روسيا لأميركا وأميركا لروسيا، والموقف تجاه إيران، وإيران تجاه أميركا، والعرب تجاه إيران.. إلخ، ليغدو الكل في وجه الكل، ولكن على حساب قضية شعب مذبوح.
في ظل حال كهذا؛ ما العمل؟ هل خَرَج الأمر من يد السوريين أصحاب القضية؟ أعتقد، على العكس تماماً، إنه المحفّز الأساس للصحوة؛ فبعيداً عن التصوّر المتشائم المشؤوم، ها هو الدليل يتجلى بما يحدث خلال الأسابيع الماضية من عودة لروح الثورة السورية في الشمال وغيره من مناطق سوريا، إنه الرفض لأن تكون كل هذه الملايين من الشعب السوري كالأيتام على موائد اللئام. ها نحن أمام شعب يريد تقرير مصيره والحل بالعودة للذات والانطلاق منها بثقة وإيمان بأن هذا الوطن ليس مائدة، ولا الثورة مائدة ليحتكرها أحد، وما شعب سوريا ضيف على بلده، بل هو صاحبها وبانيها ومَن يقرّر مصيرها.