بعض أسباب استطالة القضية السورية

تعدّدت الأسباب التي أدّت إلى استطالة القضية السورية واستنقاعها؛ وتفاعلت تلك الأسباب عضوياً مع بعضها بعضا؛ وتكاد تحجب أي ضوء محتمل في آخر النفق. فما طبيعة تلك الأسباب، وكيف تمت استفادة ذوي المصلحة واستغلالهم للتناقضات القائمة في جعلها بلا نهاية، وهل تلوح في الأفق أي ملامح للخلاص؟!

لم يقم بالثورة السورية سكّان أفغانستان أو أميركا، بل سكان سوريا، التي شهدت لنصف قرن تصحراً بالحياة السياسية والحرية، وازدهاراً للاستبداد والفساد والإفساد، حيث انعكس كل ذلك على الثورة تخطيطاً وإدارةً وقيادةً، لتغيّبَ الخبرة، وتُحلَّ مكانها جملة من النزعات الإيديولوجية، والتناقضات البينية، والروح الإقصائية، وكثير من الأمراض المكتسبة بفعل برمجة ذهنية، عَمِلَ عليها نظام الاستبداد الأسدي لعقود؛ وليُسْهِمَ كل ذلك بضياع جوهر القضية السورية وهدفها الأساس كثورة حرية وكرامة على الظلم والاستبداد.

لتبرير خياره باستخدام العنف المفرط، استغلَّ النظام الأسدي قلة خبرة الثورة، وارتباك قياداتها، وأمراض بعض أفرادها والمندسين فيها، وعَمِلَ جاهداً على سحبها إلى ساحته حسب قواعده

من جانبه، ومنذ انطلاق الثورة، كان أحد الهواجس الأساسية لنظام الاستبداد وأعوانه تشويه صورة الثورة ودمغها بالإرهاب والخيانة الوطنية والعمالة لمؤامرة كونية. في هذا السياق، خَدَم النظام وسرديته تصويره لعبارة "الله أكبر" كماركة مسجلة للإرهاب، وقيامه بتفجيرات في أماكن يستحيل وصول الثورة إليها، وتصويرها وكأنها من فعلها. خَدَمَه أيضاً السماح لسفير أميركا "روبرت فورد" أن يذهب إلى مظاهرة كمظاهرة حماة، ويُحمَلَ على الأكتاف؛ ومن ثم يصوّره في مجالس عزاء شهداء للثورة؛ وكل ذلك كي يثبت فكرته في المؤامرة الكونية، وارتباط الثورة بقوى خارجية.

ولتبرير خياره باستخدام العنف المفرط، استغلَّ النظام الأسدي قلة خبرة الثورة، وارتباك قياداتها، وأمراض بعض أفرادها والمندسين فيها، وعَمِلَ جاهداً على سحبها إلى ساحته حسب قواعده. استلزم ذلك إطلاق سراح إرهابيين من سجن صيدنايا؛ كان قد استخدمهم في العراق سابقاً، ليلتقوا مع أولئك الذين أطلقهم نوري المالكي بإيعاز من ملالي طهران و"حرسها الثوري"، ليأتوا مدججين بالسلاح والمال، الذي تركه لهم في الشمال الغربي العراقي؛ ولينضمّ إليهم أفراد ومجموعات من المتطرفين صدّرتهم دول تريد التخلّص من وسخها؛ وليلتقي الجميع ويشكلون حالة أُطلق عليها "داعش"؛ وليتشكل تحالف دولي لمحاربة هذه الداعش، ويترك ذلك "المغناطيس الجاذب للإرهاب" الذي تسبب وساهم بجلب تلك الآفة.

ورغم كل ما حصل من تشويه ومؤامرة على انتفاضة شعبية سلمية سورية، ورغم دعم ملالي طهران بـ "سوّاحهم" ومستشاريهم وعشرات أصناف ميليشياتهم، التي يتقدمها حزب حسن نصر الله، أضحت منظومة الاستبداد محصورة بأقل من ثلث الأرض السورية، وعلى وشك السقوط. عندها كان التدخل الروسي بالرضا الأميركي والتحالف الدولي الذي حدّد مهمته بمحاربة هذه "الداعش" فقط، ولتدخل تركيا بفعل ملايين السوريين الذين هجّوا إلى أراضيها؛ ولتستنفر إسرائيل وتبدأ رحلاتها الجوية استباحةً للأجواء السورية بالتنسيق مع الروس بحجة ضرب إيران التي تقترب من حدودها؛ ولتصبح سوريا أرضاً مستباحة لأكثر من احتلال، وليصبح جوهر الصراع في سوريا، بين {نظام مستبد، وشعب يريد الحرية}، مسألة ثانوية.

تداخلت وتجاذبت وتناقضت مصالح المتدخلين بالقضية السورية، ولكنها اتفقت ضمناً ودون إعلانية على عدم الحسم فيها، حتى تحقق هذه الأطراف ما استطاعت من جَنى لتدخلها. لم يصدر عنها بيان، إلا وكانت ترويسته الحرص على "وحدة وسيادة واستقلال سوريا وسلامة شعبها". كما أنها أجمعت على أن الحل في سوريا يجب أن يكون سياسياً؛ فكان "إخراج" القرارات الدولية الخاصة بسوريا فضفاضة رخوة دون آلية تطبيق فاعلة؛ لتتحوّل تلك القرارات إياها إلى أداة للخرق والتلاعب وتحقيق المصالح وتصفية الحسابات.

أما قضية الشعب السوري وحاله ومصيره فهي لهم تارة قضية إنسانية، وأُخرى حقوقية، وثالثة قانونية ودستورية، ورابعة عقوباتية، وخامسة "أستانية"، وسادسة تطبيعية، وسابعة لاجئين ومعتقلين، وثامنة "كبتاغونية"، وتاسعة إعادة إعمار، وعاشرة بانتظار نهاية الحرب الأوكرانية وتحقيق السلام الشامل والتطبيع في الشرق الأوسط. وهكذا يستمر استنقاع واستطالة القضية، وتغييب جوهرها الأساسي المتمثل بشعب يريد الحرية والكرامة والحكم الرشيد وسيادة القانون واستعادة بلد، ليكون آمناً سيداً مستقلاً خالياً من منظومة إجرام واستبداد.

لا أحد يمتلك حلاً سحرياً، لكن لا بد من صحوة وثورة جديدة قوامها وعي تلك الوقائع والحقائق. لا بد من فهم تلك التناقضات الدولية على الأرض السورية، واستغلالها، وفضح استغلال "النظام" لها

والحال هكذا بالوقائع والحقائق، ما السبيل إلى الخلاص من حالة الاستنقاع هذه لشعب مبعثر في شتى أصقاع الأرض، وبلد تتناهشه وحوش ضارية أُمنية مَن بقي داخله من شعب الخروج منه، ومنظومة تسلُّطٍ محلية منفصلة عن الواقع هاجسها البقاء على الجماجم توصد الأبواب في وجه أي بؤرة ضوء، وسلطات أمر واقع داخلية تعيش على التشبيح، وقوى احتلال خارجية لا يهمها إذا تحوّل هذا البلد إلى قطع منثورة؟!

لا أحد يمتلك حلاً سحرياً، لكن لا بد من صحوة وثورة جديدة قوامها وعي تلك الوقائع والحقائق. لا بد من فهم تلك التناقضات الدولية على الأرض السورية، واستغلالها، وفضح استغلال "النظام" لها. لا بد من طمأنة أولئك الذين يراهنون عليه ويربطون مصيرهم بمصيره اضطرارياً، وفضح آخر ممارساته برفع يده ومسؤوليته عن مصير الناس ليستنفروا ويشعروا بحرب قادمة؛ فمنظومة الاستبداد واضحة من خلال اللقاء التلفزيوني الأخير لرأسها بعدم اكتراثها بما يُسمى حاضنتها، والتي تعيش بفعل عدم توفر الموت. لا بد من الاستفادة من الحراك والأصوات ضمن حاضنته التي أخذها رهينة، ومد اليد للمعارضة التي سمّاها "مصنعة". فالأمور تخرج عن سيطرته بطريقة غير متوقعة. ولا ينفع الاستعاضة عن "طربوشه" بطربوشٍ من البيت ذاته. لا بد من استغلال القناعات التي توصلت إليها الأطراف المطبّعة، والعمل على حصر العقوبات الدولية بالمنظومة. لا بد من وقف أي تفاوض معه، والضغط على الأمم المتحدة كي تفرض انتقالاً سياسياً، بجدول زمني، كما ورد في القرارات الدولية.