رغم أن بيان جدة الذي صدر في ختام القمة العربية المنقضية قبل فترة وجيزة احتوى بندين يتحدث أولهما عن "تكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سوريا على تجاوز أزمتها" ويركز ثانيهما على "تعزيز الظروف المناسبة لعودة اللاجئين السوريين والحفاظ على وحدة وسلامة أراضي سوريا"، إلا أن مقاربة هذا الطرح مع الواقع، ودراسة إمكانية أن تسهم الجامعة العربية فيهما، توضحان أنهما ليسا سوى ذر للرماد في العيون!
وربما يمكن استكشاف ما سوف يحدث مستقبلاً من خلال تذكرنا لطريقة تعاطي النظام سابقاً مع خطوات الجامعة ولاسيما مبادرة السلام العربية في العام 2011 حينما فشلت بعثة المراقبين بقيادة الجنرال السوداني محمد الدابي في إلزام النظام بالتوقف عن قتل المتظاهرين السلميين، الأمر الذي أوضح استهانته بها وعدم إيلائه أي أهمية لإرادات الدول العربية.
خلال حضوره لقمة جدة كانت ملامح وجهه تشي بما يعتمل في داخله من قرف، إنه لا يريد منها أن تتدخل في سياسته مع السوريين إلا إذا طلب ذلك بحسب كلمته
بشار الأسد وكما هو معروف في سيرته غير العطرة يحتقر الدول العربية، وقد صرح ذات يوم بأن قادتها "أنصاف رجال"، وخلال حضوره لقمة جدة كانت ملامح وجهه تشي بما يعتمل في داخله من قرف، إنه لا يريد منها أن تتدخل في سياسته مع السوريين إلا إذا طلب ذلك بحسب كلمته، وبدلاً من أن تطالبه بخطوة وراء خطوة من أجل حل الأزمة المستمرة منذ 12 سنة عليها أن تحتضنه بالمال والتسويق والرعاية وقبل هذا بالصمت عن جرائم نظامه كما كانت تفعل مع عائلته دائماً.
لم يخفِ ما يرغب به عن أحد، حتى هو يجتهد في تنميق الجمل التي تعبر عما سبق، فهو يعرف أن لا مشكلة لدى الطرف الآخر في أن يفعل ما يريد، فالدول العربية التي اضطرت للتحرك في العام الأول للثورة وقامت بتجميد عضوية النظام، ومقاطعته، تحت ضغط الدم المسال في الشوارع السورية، وعملت في جهة أخرى على الإطاحة بموجة الربيع العربي من خلال الثورات المضادة، لن توقف تطبيعها معه حالياً حتى وإن لم يقدم على أي خطوة!
إنها تعرف الحقيقة الساطعة التي تفيد بأن سوريا الأسدية لم ولن تتغير، وأن السيالة العصبية التي تحرك الأدمغة في دمشق ذات طبيعة مافيوية، لا يهمها سوى الحصول على ما تريد، حتى وإن احتاج الأمر إشعال البلد حرباً ودماراً، أو إحراق الشرق الأوسط كله، وإغراقه بالمخدرات، ولهذا فقد حددت سقف مطالبها منه فهي تريد أن يتوقف عن إرسال الشحنات السامة إلى أراضيها، ولا شيء آخر، ولتذهب قضية السوريين إلى الجحيم!
هل نبالغ في الحديث عن هذا الشكل الفاقع من العلاقة بين الجهتين؟
الإجابة على هذا السؤال تتطلب التدقيق في طرح الجامعة العربية ذاته، بالنظر إلى إمكانياتها وقدراتها، فالوضع السوري وفق الشكل الذي فصله النظام، كان قائماً قبل خطواتها، ويمكن أن يستمر بدونها، بمعنى أن لا شيء سيستدعي من النظام القبول بما يطلبه العرب، الذين قصوا أظافرهم في الحالة السورية، ولم يبادروا هنا إلى عمل عسكري كما في اليمن من أجل الضغط على الأسد، لا بل إنهم تركوا إيران تتغلغل، وحين باتت الهزيمة العسكرية قريبة جداً صمتوا عن دخول روسيا للمعركة، ونقول صمتوا في حال تجاهلنا فرضية التمويل الإماراتي لكلفة هذا التدخل العسكري التي تحدث بها سفير روسيا في دمشق قبل أيام!
التركيز على عودة اللاجئين في البند الثاني هذا لا يعفي أصحاب المبادرة بإعادة النظام إلى كرسي سوريا في جامعة العرب من المسؤولية عن أرواح كل من سوف تتم إعادتهم قسراً
الآن، وبعد كل ما جرى من تقييد للأنشطة العسكرية للفصائل المسلحة، وإحالة المسار السياسي إلى مزاج النظام الذي لن يقدم سياسياً للشعب السوري أي شيء طالما يرى أنه انتصر في المعركة، فإن قراءة الممكنات عربياً والتمحيص فيها يعني بذل الجهد بلا طائل، ووفق هذا سيكون البند الأول في إعلان جدة بلا قيمة فعلياً!
التركيز على عودة اللاجئين في البند الثاني هذا لا يعفي أصحاب المبادرة بإعادة النظام إلى كرسي سوريا في جامعة العرب من المسؤولية عن أرواح كل من سوف تتم إعادتهم قسراً من قبل الدول والتي قدرت بأن الظروف صارت مناسبة بعد خطوات غير مسؤولة كهذه، وستعمل على حل مشكلتهم عبر إعادتهم إلى قاتلهم الذي لن يدخر جهداً في محاسبتهم على ثورتهم!
وفي الوقت نفسه، هل سأل أحد ممن صفقوا لعودة الأسد إلى مكانه في الصورة التقليدية للحكام العرب التي تؤخذ في هكذا مناسبات عن موافقتهم الضمنية على حال سوريا المقسمة، والتي ستبقى هكذا، على حالها، طالما أن قاتل الأطفال ما انفك يهزأ بالجميع ويتفلسف بأفكار دفتر المحفوظات، بعد أن استعاد بعضاً من مقومات الشرعية القانونية!