لا تكاد طبول الحرب في أوكرانيا تهدأ، حتى تعيد الآلة الإعلامية الغربية تأجيجَها مُعيدة سيرتها الأولى ومكررة المواقف والتصريحات ذاتها فيما يتعلق بمستقبل منطقة محتقنة أصلاً، ومبتلاة بالانقسام الديني والعرقي واللغوي الناجم عن الانهيار الكبير للاتحاد السوفييتي والجمهوريات الجديدة الناشئة.
لن أكررَ مواقف وتصريحات روسية أو غربية حول الملف الأوكراني، فالصراع بين الطرفين ذو أبعاد إستراتيجية، قد لا تعني السوريين المشدوهين بمتابعة العالم أدق تفاصيل ما يجري في أوكرانيا، وإهماله مأساتهم المستمرة لأكثر من عقد.
لعلَّ مؤشرات التداخل والترابط بين الملفين الأوكراني والسوري أكثر من أن تحصى، لكن أبرزها ما قام به وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو من ترَؤُّسه مناورات وتدريبات بأسلحة وقاذفات نوعية في مياه البحر الأبيض المتوسط وزيارته إلى ما بات يُعرف في أدبيات شويغو برأس الحربة في المواجهة الروسية الغربية "قاعدة حميميم"، وتركه لكل الاحتقان والمناورات الجارية على حدود أوكرانيا، ثم قيام وزير الخارجية الروسي لافروف بتوبيخ المبعوث الأممي إلى سوريا "غير بيدرسن" حول مواقف الأمم المتحدة "المنحازة" من وجهة نظره "لافروف" ضدَّ روسيا فيما يخصّ الشأن الأوكراني، على الرغم من كونه "أي بيدرسن" بعيداً كلَّ البعد عن هذا الملف.
السؤال الذي يطرح نفسه، على الرغم من كل التداخلات السياسية والعسكرية بين الملفَين السوري والأوكراني، هو كيف ستنعكس الأزمة الجديدة "أوكرانيا" على نظيرتها السورية في ظل المواقف الدولية الراهنة؟
يدرك نظام الأسد خطورة مآلات الأزمة الأوكرانية، ولذلك نجده يسارع لاتخاذ مواقف قد تبدو في ميادين السياسة والدبلوماسية "خطايا" لا تغتفر، فيبدي استعداده للاعتراف بانفصال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وإقامة علاقات دبلوماسية وتعاون اقتصادي
ما من شك أن الانشغال الروسي بأوكرانيا سوف يستحوذ على اهتمام الكرملين، وسوف يجد الأسد نفسه في وضع "يخفف" الضغط السياسي والعسكري عليه من قبل الروس بسبب انشغالهم شمالاً بمواجهة عاصفة الغضب الغربي والاجتياح المحتمل، لكن انزياح بعض الضغوط عن كاهل الأسد سوف يؤدي إلى محاولة أطراف أخرى منها إيران مَلء ذلك من خلال التمدُّد عبر ميليشياتها المتناسلة، والتوجّه إلى مواقعَ كانت تحت الهيمنة الروسية الكاملة، وربما الاقتراب أكثر من الحدود الجنوبية وتهديد تل أبيب التي تدرك أن محاولاتها لإمساك العصا من المنتصف بين روسيا والولايات المتحدة لن تدوم طويلا، لكنها تعلم أنه ما من خيار أمامها سوى السير على خيط رفيع من التوازن لتأمين استمرار ضرباتها الجوية وعملياتها العسكرية ضد أذرع إيران في سوريا، لا سيما أن الوقت بدأ ينفد والاتفاق حول الملف النووي الإيراني بات شبه ناضج، ما يعني أن وضعا جيوسياسيا جديدا سوف يتم فرضه على إسرائيل، وربما عليها تقبّل رغبة العالم بتهدئة الملف الإيراني لصالح نظيره الأوكراني الأكثر تأزما. لكن تل أبيب لن تقبل بحال من الأحوال الانتقاص من هواجسها الأمنية، وربما تكثف ضرباتها في سوريا مستهدفة إيران وأذرعها، مستغلة انشغال العالم في مكان آخر، ما قد يؤدي إلى ارتفاع وتيرة المواجهة بين طهران وتل أبيب، على الأرض السورية أولا، وربما في أماكن أخرى لإيران حضور سياسي أو عسكري كلبنان والعراق.
بمعزل عن المخاوف الإسرائيلية والذرائع التي قد تسوّقها لزيادة التصعيد العسكري، يبدو أن مآلات المواجهة الروسية الغربية حول أوكرانيا سوف تنعكس على الملف السوري بشكل أو بآخر، فالفريق المنتصر سوف يحصد غلال نصره السياسي أو العسكري في أماكن أخرى من العالم، ومنها سوريا، وقد يكون الحل السياسي قد تبلور وفق رؤية واحدة تغلّب مصالح المنتصر في الملحمة الأوكرانية.
يدرك نظام الأسد خطورة مآلات الأزمة الأوكرانية، ولذلك نجده يسارع لاتخاذ مواقف قد تبدو في ميادين السياسة والدبلوماسية "خطايا" لا تغتفر، فيبدي استعداده للاعتراف بانفصال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وإقامة علاقات دبلوماسية وتعاون اقتصادي، فإمّا أن يخرج الكرملين منتصراً من مواجهته الشاملة مع الغرب في أوكرانيا، ويؤمن له مساراً سياسياً يكفل بقاءه واستمراره كنظام سياسي، ولو بحكم الأمر الواقع، وإمّا أن يخرج الغرب منتصراً في هذه المواجهة، وهو أمر مستعبد على الأقل حالياً، فيستعيد شيئاً من حرية اتخاذ القرار بعيداً عن الكرملين، ويعيد مدَّ جسور التواصل المنقطعة منذ أكثر من عقد مع العواصم الغربية مقابل تقديم بعض التنازلات السياسية في ملفات هامشية بالنسبة إليه.
كل ذلك يجري والسوريون مستمرون أمام شاشات التلفاز يتابعون تطورات الملف الأوكراني، تملؤهم الحسرة على حجم التغطية الإعلامية المخيفة التي استحوذت عليها كييف في مقابل مأساتهم، لكنهم يدركون أن شيئا ما سوف ينبجس من مآلات ونتائج هذه الأزمة، وسوف يؤثر عليهم وعلى مستقبل بلادهم التي باتت بأمسّ الحاجة إلى ميناء سلام يرسم ملامح مستقبل أولادهم، ولا يضيع أياً من تضحياتهم الكثيرة، فهل المعارضة السياسية والسوريون بوجه عامّ مستعدون لمآلات ما قد ينجم؟ وهل أعدّوا العدّة للاستفادة من نتائجها أياً كان الطرف المنتصر فيها؟