لم تكن جولة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الشرق الأوسط لتتم وتحديدا في هذا التوقيت العاصف من الأزمات المحدقة بالمنطقة والعالم بأسره، لولا أن روسيا كانت قبل نحو ستة أشهر قد أنشبت أظفارها في جسد أوكرانيا، وبدأت بتقطيع أوصاله وفقا لرؤية الكرملين لمكانة روسيا وهيبتها الجيوستراتيجية في العالم. هذا أمر يكاد يكون مفروغا منه. فتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا لم تنهك اقتصاد الولايات المتحدة وتغرقه في تضخم لم يشهد له مثيلا منذ عشرات الأعوام فحسب، بل انعكست آثاره على كل من الاقتصادات العالمية المترنحة بعد جائحة كورونا منذ عامين، وعلى مصالح الولايات المتحدة حول العالم.
زيارة الرئيس الأميركي لم تكن سوى امتداد لسياسات واشنطن الخارجية التي اعتمدها من سبقوه من الرؤساء الأميركيين، فمواجهة الصين بوصفها الخصم "وربما العدو" الاستراتيجي لواشنطن في آسيا والمحيط الهادئ، ومجابهة التغول الروسي شرقي أوروبا والتي عجزت العقوبات الاقتصادية وحدها على إيقاف آلته العسكرية، وبالتالي محاولة منع بكين وموسكو من سد الفراغ الناجم عن انسحاب واشنطن من الشرق الأوسط، ظل الهاجس الأكبر لإدارة بايدن، في ظل رفض معظم حلفائه في المنطقة، وفي مقدمتهم السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل، إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وتجاهل طلبات أميركية بزيادة إنتاجهما من النفط لخفض الأسعار، وتسهيل استغناء أوروبا عن النفط الروسي، في حين رفضت تركيا الالتزام بالعقوبات الغربية رغم دعمها الموقف الأوكراني في الحرب.
الرئيس الأميركي فوجئ ربما بحجم "البرود" الرسمي الذي قوبل به أثناء قمة جدة للأمن والتنمية، وتعالي أصوات العديد من الدول المشاركة لتذكير الرئيس العتيد بأزمات المنطقة المزمنة
إبعاد الحلفاء التقليديين عن التقارب مع بكين وموسكو في ظل انشغال واشنطن بمواجهة البلدين سياسيا واستراتيجيا، وربما عسكريا ولو عبر حروب الوكالة، ظل مطمحا أميركيا وغاية مرتجاة للزيارة بعد تواتر الأنباء بقيام مسؤولين روس بزيارة إيران في حزيران الماضي لاستكشاف إمكانية الحصول على طائرات من دون طيار إيرانية الصنع لاستخدامها في حرب أوكرانيا، لكن الرئيس الأميركي فوجئ ربما بحجم "البرود" الرسمي الذي قوبل به في أثناء قمة جدة للأمن والتنمية، وتعالي أصوات العديد من الدول المشاركة لتذكير الرئيس العتيد بأزمات المنطقة المزمنة، كسوريا واليمن وفلسطين، وإهمالها لهذه الملفات خلال السنوات الماضية.
الطلب من دول الخليج العربي زيادة إنتاجها من النفط والغاز لخفض أسعاره عالميا، كان من بين المطالب التي تسربت من بين ثنايا الاجتماعات، لكن ارتباط دول الخليج باتفاقات منظمة أوبك وأوبك بلس، وبلوغها الطاقة الإنتاجية القصوى لبعضها، جعل من المطلب الأميركي غير ذي جدوى، وهو ما لمح إليه الرئيس الفرنسي ماكرون خلال لقائه الأخير مع بايدن في قمة الناتو الأخيرة.
لعل من أخطر ما حاول الرئيس الأميركي القيام به هو الدعوة صراحة إلى فصل مساعي التطبيع مع إسرائيل عن القضية الفلسطينية، ورغم تأكيده على دعم حل الدولتين، لكنه لا يرى أفقًا لتحقيقه في الحاضر على حد قوله؛ وهو الأمر الذي ربما فجر ملف التطبيع برمته خلال القمة، وأدى إلى فشل أي مساع لتشكيل تحالف أمني يشمل دولا عربية في المنطقة مع إسرائيل، وهو الأمر الذي نفته الخارجية السعودية بل وسخرت من مجرد الحديث عنه في ظل الأوضاع الراهنة!
لعل من أبرز ارتدادات زيارة بايدن للمنطقة مسارعة الدول الضامنة لمسار آستانا للاجتماع وتعزيز التعاون الاقتصادي والتوافق حول ملفات سوريا وغيرها في المنطقة، إجماع روسيا وتركيا وإيران على مطالبة واشنطن بالانسحاب من شرقي الفرات وتركيز الاهتمام على وجودها العسكري شرقي سوريا ودعمها اللامحدود لقوات سوريا الديمقراطية التي تحولت إلى هدف مشترك للدول الثلاث، ما يعني، على الصعيد السوري، أن إهمال إدارة بايدن للملف السوري، والذي وصفته صحف أميركية بالتنازل عن الزعامة في سوريا والشرق الأوسط باتت آثاره واضحة لجهة تجاهل دول المنطقة لوجودها ونفوذها ومراعاة مصالحها.
تظل السياسة الأميركية في المنطقة منصبة على دمج إسرائيل وتعزيز نفوذها وحدها في المنطقة وإهمال أي عامل سياسي أو عسكري أو تحالف ولو كان تقليديا
وإذا انطلقت العملية العسكرية التركية شمالي سوريا، على الرغم من رفض طهران وموسكو لها، ولو ظاهريا، فإن الوجود الأميركي في المنطقة وسوريا تحديدا سيتعرض إلى التحجيم وربما التقليص تبعا لانتشارها واعتمادها على قسد في الدعم والإسناد والشراكة الأمنية والعسكرية، وتنبع مخاوف واشنطن من تزامن عملية أنقرة شمالي سوريا، مع عمليات يمكن لكل من موسكو وطهران إطلاقها شرقي سوريا، لمجابهة الوجود الأميركي وسيطرته على منابع النفط والغاز في سوريا، وهو أمر قد يعرض القوات الأميركية لخطر حقيقي إذا لم تنجح واشنطن في تدارك تحالفاتها التقليدية مع أنقرة، وتعديل ميزان علاقتها المختل حاليا، وتصحيحه مع القوى الفاعلة أو التي سوف تكون فاعلة قريبا شمالي سوريا، في حين تظل السياسة الأميركية في المنطقة منصبة على دمج إسرائيل وتعزيز نفوذها وحدها في المنطقة وإهمال أي عامل سياسي أو عسكري أو تحالف ولو كان تقليديا، لصالح خيارات أثبتت حتى الآن فشلها الذريع وأثرها المخيف على مستقبل الوجود الأميركي في منطقة الشرق الأوسط عموما، وسوريا تحديدا.