بعد زمن طويل من المشاحنات بين إيران وإسرائيل تم خرق قواعد الاشتباك، ودخلنا لمرحلة جديدة في الصراع الإيراني الإسرائيلي، وتتميز هذه المرحلة بالهجوم المباشر بين إيران وإسرائيل بعد أن كانت الهجمات بالوكالة، ويبدو هذا ما أرادته إسرائيل من هجومها بشكل مباشر على القنصلية الإيرانية في وسوريا لخرق ما يسمى بـ"قواعد الاشتباك"، مما اضطر إيران إلى تغيير قواعد اللعبة والتجهيز لضرب إسرائيل مباشرة لحفظ ماء وجهها، وليس لإلحاق الضرر بإسرائيل، وهذا كان واضحا من التنسيق الإيراني الأميركي قبل هذا الهجوم.
جميع الدول تابعت تطورات الهجوم الإيراني على إسرائيل بين مؤيد ومعارض، ولكن تركيا تابعت التطورات بهدوء داعية الأطراف إلى ضبط النفس، ومؤكدة أنها لا تدعم أحد الطرفين في هذه الحرب التي يعدّها بعضهم فخا من الولايات المتحدة لبعض دول المنطقة.
ولكن هذا لم يمنع تركيا من التذكير والتشديد على ضرورة الاعتدال وضبط النفس والتحذير من خطورة انتشار الحرب في غزة إلى كل دول المنطقة، عن طريق بيان رسمي من وزارة الخارجية التركية، إذ طالب البيان بوقف التصعيد والعمل على المسار السياسي لإنهاء الحرب في غزة.
الهجوم الإيراني كان ردا على استهداف القنصلية الإيرانية في سوريا وليس له علاقة بموضوع غزة.
أما الإعلام التركي والصحافة التركية، فتناولت الموضوع من وجهات نظر مختلفة ومتعددة، فبعضهم قال إن ما حصل عبارة عن تمثيلية لا أكثر، وإن هدف هذه التحركات هو خلط الأوراق وخلق فوضى في الشرق الأوسط، وليس له علاقة بما يحصل في غزة، وبعضهم الآخر رأى في الخطوة الإيرانية بصيصَ أمل لانتهاء أسطورة إسرائيل في المنطقة، إذ لم تتجرأ أي دولة منذ زمن طويل على استهداف إسرائيل بشكل مباشر، وقسم من الأتراك شاهدوا بالضربة الإيرانية عملية انتقامية لما كان يحصل في غزة على مدار أشهر.
تنوّع الآراء هو شيء صحي في دولة ديمقراطية مثل تركيا ولهذا أعتقد أن الهجوم الإيراني كان ردا على استهداف القنصلية الإيرانية في سوريا وليس له علاقة بموضوع غزة، وهذا ما يثبته توقيت الهجوم، من جانب آخر لاحظنا من خلال هذا الهجوم، مدى التنسيق الإيراني الأميركي الدقيق والعميق، فقد نسّق الطرفان الهجوم زمنيا ومكانيا، وحتى حددوا نتائج الهجوم قبل بدايته.
الطرفان اتفقا على ألا يسفر هذا الهجوم عن خسائر بشرية، وهذا ما حدث بالضبط، ولأن إيران لم تبتعد خارج بنود الاتفاق مع الولايات المتحدة عملت على كبح جماح إسرائيل، وستحاول أن يكون الرد الإسرائيلي ردا متواضعا كهجوم سيبراني مثلا.
بعض الصحف التركية كصحيفة يني شفق، فسّرت أن في هذا الهجوم بُعداً خاصاً بالنسبة إلى تركيا، وهو حزب العمال الكردستاني فعندما يكون الموضوع إسرائيل، تصبح الولايات المتحدة وإيران عدوتين لدودتين، وعندما يتعلق الموضوع بحزب العمال الكردستاني والأمن القومي التركي، تتحول إيران والولايات المتحدة إلى حلفاء يدعمون حزب العمال بالمال والسلاح ضد تركيا!، وهذا ما رأيناه في شمالي سوريا والعراق على مدار سنوات طويلة، كما يؤكد مرة أخرى التنسيق العميق بين الدولتين تجاه دول المنطقة، وهذا ما يدفع بعض المواطنين بتركيا وبالشرق الأوسط لعدم التعاطف مع إيران في هذه الحرب.
إيران تشكل مخرجا للأزمة الإسرائيلية.
أما صحيفة قرار التركية فكان لها وجهة نظر أخرى أتطابق معها، وهي أن إيران تشكل مخرجا للأزمة الإسرائيلية، فحكومة نتنياهو تمرّ بمرحلة حرجة، وتحتاج إلى مخرج منطقي من هذه الأزمة، فتوسيع رقعة الحرب وشدّ إيران لها سيعزز موقف نتنياهو، وسيجلب إليه دعم وتعاطف غربي كبير، ولا سيما حاليا مع التململ الغربي والأميركي من حكومة نتنياهو التي تضرب المصالح الإسرائيلية والأميركية والغربية عرض الحائط.
أما بالنسبة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فكان يغلب عليها السخرية من تفاصيل الهجوم الإيراني على إسرائيل، حيث شاهدنا كثيرا من الفيديوهات التركية الساخرة حول هذا الموضوع، بسبب عدم وجود عنصر المفاجأة وعدم وقوع ضحايا أو خسائر كبيرة، وبعضهم أيضا استغربَ من الدقة الإيرانية بعدم المساس بأي إسرائيلي في هذا الهجوم! ، وحتى إنَّ بعضهم أخذ يقارن بين المسيّرات التركية والمسيّرات الإيرانية التي لم تصب أيَّ هدف من أهدافها، وكأنها من كرتون، وجميع رواد مواقع التواصل الاجتماعي اتفقوا على الفرق الكبير بين الهجوم الإيراني على السوريين الثائرين ضد النظام السوري والهجوم الإيراني على إسرائيل.
ومع مراقبة كل التفاصيل سنلاحظ أن إيران تحاول محاربة إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة لكي لا تتخطى الخطوط الحمر، ولكي يبقى طريق للعودة، لأن إيران كان عليها أن تردّ على استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في سوريا، ولكن في الوقت نفسه لا تريد أن تتخطى الحدود، أي أن الذي نراه من الممكن أن يكون عبارة عن مزاح حتى الآن وغير حقيقي، لكن يجب ألا ننسى أنه أحيانا يتحول المزاح إلى جد، لذلك تركيا ما زالت متمسكة بالمسار السياسي، وتحاول إقناع كل الأطراف بأن المسار العسكري حل غير واقعي، وأن الحل الأخير والوحيد هو الحل السياسي لهذه الأزمة، ومن هنا نستطيع أن نفهم أن تركيا أتقنت دور الوسيط بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وستحاول لعب هذا الدور مع الأطراف المتعددة في هذه الأزمة أيضا.