حُسِمَتْ الانتخابات التركية، ولكن آثارها لا تزال مستمرة في المشهد السياسي التركي. فكل القوى السياسية في تركيا تعيد ترتيب أوراقها لتتناسب مع المرحلة الحالية، ولتتجهز للانتخابات بعد نحو خمس سنوات من الآن. وكانت التغيرات الكبيرة من نصيب المعارضة التركية، بسبب خسارتها في الانتخابات الرئاسية، وعدم استطاعتها الحصول على الأغلبية في البرلمان التركي. لذلك شهدنا انقلاباً على رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال كليتشدار أوغلو، من قبل رؤساء بلديات إسطنبول وأنقرة وبعض مساعدي كليتشدار أوغلو، مما أسفر عن تغير كبير في قيادات الحزب المعارضة وتعيين أوزغور أوزيل كرئيس جديد لحزب الشعب الجمهوري المعارض، الذي يعد من أهم وأقوى الأحزاب المعارضة في تركيا، بسبب تأسيس هذا الحزب من قبل مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.
البعض وصف خبر تقليص صلاحيات الرئيس أردوغان بالانقلاب الناعم
ارتدادات نتائج انتخابات البلدية لا تزال مستمرة، حيث نلاحظ أن فوز المعارضة بانتخابات البلدية أعطى دفعة قوية للمعارضة للهيمنة على المشهد السياسي التركي. فمنذ أن تسلّم أوزغور أوزيل رئاسة حزب الشعب الجمهوري، يحاول تطبيق خطين من السياسة: خط سياسي تصالحي يغلب عليه الهدوء، وخط قانوني يركز على الثغرات القانونية والدستورية للحزب الحاكم. بناءً على ذلك شهدنا تغيير بعض القوانين وسحب بعض الصلاحيات من قبل المحكمة الدستورية العليا من الرئيس أردوغان بحجة أنها تخالف الدستور التركي، ما أثار بلبلة وضجة إعلامية في الأوساط التركية والغربية أيضاً. حتى إن البعض وصف المشهد بأنه عملية انقلاب ناعمة على الحزب الحاكم، حيث ألغت المحكمة صلاحية الرئيس التركي في تعيين رؤساء الجامعات وإقالة محافظ البنك المركزي التركي قبل انتهاء ولايته.
وبعد يوم من إصدار قرارات المحكمة الدستورية العليا، صرح مركز مكافحة التضليل الإعلامي التابع لرئاسة الاتصالات في تركيا بأن الادعاء الذي تداولته بعض وسائل الإعلام حول "إلغاء المحكمة الدستورية صلاحيات الرئيس أردوغان في تعيين رئيس البنك المركزي ورؤساء الجامعات" غير صحيح. وأضاف أن القرارات المتعلقة بإلغاء تعيين رؤساء الجامعات ورئيس البنك المركزي جاءت بسبب ضرورة أن تتم هذه التعيينات بوساطة قانون، وليس مرسوماً بقانون، وهو ما يعني أن الإلغاء ليس جوهرياً. هذا يعني أن قرار المحكمة الدستورية سيدخل حيز التنفيذ خلال 12 شهراً من اليوم، في حال لم يقر البرلمان التركي قانوناً جديداً ينظم الأحكام التي تم الاعتراض عليها.
سبب الفجوات الدستورية هو الانتقال من نظام برلماني إلى نظام رئاسي دون تغيير الدستور التركي
طبعاً، الصراع بين المحكمة الدستورية العليا وحزب العدالة والتنمية ليس بالجديد. حيث أتت هذه القرارات المفاجئة نتيجة لدعوى أقامها حزب "الشعب الجمهوري" أمام المحكمة الدستورية في عام 2018. واليوم، في 2024، نرى نتائج هذه الدعوى، وأعتقد أن هذا ليس صدفة، بل هي من ارتدادات فوز المعارضة بالانتخابات المحلية مؤخراً. نستطيع القول إنَّ فوز المعارضة التركية في الانتخابات البلدية أعاد لها روح الثقة والتي تعمل حالياً على كشف الثغرات القانونية لحزب العدالة والتنمية للإيقاع به وإثبات نفسها بديلاً منطقياً داخلياً أو خارجياً عبر سياسة عقلانية تجاه موضوع اللاجئين وتجاه الدول الغربية.
في تقديري، سبب هذه الفجوات الدستورية هو الانتقال من نظام برلماني إلى نظام رئاسي دون تغيير الدستور التركي. حيث إن الدستور التركي الحالي لا يتناغم مع النظام الرئاسي الذي يسعى الرئيس أردوغان لتطبيقه في تركيا. لذلك لدينا حلّان اثنان لا ثالث لهما: إما أن يستطيع حزب العدالة والتنمية إقناع القوى السياسية في تركيا بتغيير الدستور التركي، وهكذا سيكون قد أغلق باب الخلافات والفجوات القانونية، أو أن يتم إعادة نظام الحكم إلى النظام البرلماني السابق. وإلا فسيظل باب الخلاف مفتوحاً بين المحكمة الدستورية العليا وبين حزب العدالة والتنمية، وهذا الشيء لن يكون لصالح الحزب الحاكم أبداً.
كثرة الملفات الصعبة على طاولة الحكومة التركية، ستسهل للمعارضة اصطياد الأخطاء والهفوات للحكومة، لأن المعارضة متفرغة، ولا يوجد على طاولتها غير الانتقاد وهدف الوصول للسلطة
سابقاً، عندما شهدنا بعض الخلافات بين المحكمة الدستورية والرئيس أردوغان عندما كان رئيساً للوزراء، انتهج أردوغان سياسة اللامبالاة تجاه قرارات المحكمة، ولكنه لا يستطيع أن ينتهج هذه السياسة دائماً، ولا سيما بعد عودة المعارضة التركية إلى المشهد السياسي التركي بعد عقدين من الزمن. لذلك أعتقد أن الرئيس أردوغان سيحاول بكل السبل تغيير الدستور التركي، وهذا ما نلاحظه في الفترة الأخيرة حيث اجتمع أردوغان مع زعيم حزب الشعب الجمهوري الجديد أوزغور أوزيل، وسيجتمع معه مرة أخرى أيضاً. وقد اجتمع الرئيس أردوغان مع رئيسة حزب الجيد السابقة ميرال أكشينار، مما أثار تساؤلات كثيرة عن سبب تفضيل أردوغان الاجتماع بأكشينار بدلاً من الرئيس الجديد لحزب الجيد درويش أوغلو.
السياسة التركية الداخلية تغلي غلياناً. فمن جهة، موضوع تغيير الدستور، ومن جهة أخرى العمليات الأمنية تجاه بعض رجال المافيا المحسوبين، كما يقال، على بعض شخصيات من حزب العدالة والتنمية. مروراً بإدارة الاقتصاد التركي المتأزم، بالإضافة إلى تهديد الأمن القومي التركي من قبل حزب العمال الكردستاني. وبسبب كثرة هذه الملفات الصعبة على طاولة الحكومة التركية، سيكون من السهل للمعارضة اصطياد الأخطاء والهفوات للحكومة، لأنها متفرغة، ولا يوجد على طاولتها غير الانتقاد وهدف الوصول للسلطة.