كانت الدنمارك أول دولة أوروبية تطلب من عدد كبير من اللاجئين السوريين العودة إلى بلدهم، وبالرغم من أنها لم تقم بترحيل أحد حتى الآن، فإنه تم تجريد 400 سوري تعود أصولهم للعاصمة دمشق وما حولها من إقاماتهم ومن حقهم بالعمل منذ عام 2019.
قلة من المتضررين خاطروا بالعودة إلى بلدهم سوريا، حيث وثقت منظمات حقوقية أخيراً حالات تعذيب وإخفاء قسري للعائدين من اللاجئين. إلا أن هؤلاء باتوا يتعرضون لضغوطات متزايدة، ما دفع المئات منهم لمغادرة الدنمارك بحثاً عن ملاذ آخر في دولة أوروبية أخرى.
بررت الحكومة الدنماركية التي اتخذت أقسى موقف تجاه اللجوء والهجرة في أوروبا خلال السنوات القليلة الماضية، قرارها بالقول إن هنالك انحساراً في النزاع المسلح في دمشق وما يحيط بها من الضواحي.
وأهم دليل اعتمدت عليه كان تقريراً صدر في عام 2019، تحت عنوان: "معلومات عن البلد الأصلي" والذي شاركت في كتابته دائرة الهجرة الدنماركية والمجلس الدنماركي للاجئين، وهو أكبر منظمة غير حكومية في الدنمارك. وبالإضافة إلى تأثير ذلك التقرير على السوريين في الدنمارك، أصبح هذا التقرير بمنزلة انقلاب دعائي بالنسبة لنظام بشار الأسد، حيث وصفت وسائل الإعلام التابعة للدولة في سوريا هذا القرار الدنماركي بالنصر السياسي.
فالقرار الذي تم بموجبه إلغاء إقامات السوريين يتوافق مع موجة أوسع شملت عدة دول في أوروبا، حيث قامت تلك الدول بتطبيق سياسات متشددة لحرمان اللاجئين من تقديم طلب لجوء مع تقليص مدد الحماية الممنوحة لهم. لذا بعد مرور 11 عاماً تقريباً على بداية الحرب في سوريا، أصبح القلق ملازماً للمدافعين عن حقوق الإنسان ولمنظمات حقوقية بسبب قرار الدنمارك الذي يعتبر مجرد إرهاص ينذر بما سيأتي لاحقاً، وذلك مع قيام المزيد من الدول الأوروبية بالتركيز على انحسار النزاع المسلح عند تقييمها لسياسات اللجوء لديها، مقارنة بانتهاكات حقوق الإنسان المتواصلة التي يرتكبها نظام الأسد، واستمرار التهديد الذي يشكله كل ذلك.
وهكذا خرجت العديد من الحكومات والمنظمات الدولية بتقارير حول معلومات عن البلد الأصلي تشبه ذلك التقرير الذي استعانت به الدنمارك لدعم قرارها، حيث أصبحت تلك الحكومات تجمع معلومات عن الدول الأصلية التي أتى منها اللاجئون حتى تقدم توجيهات للجهات المسؤولة عن الهجرة بالنسبة للقرارات التي تتخذها حيال عملية تقديم طلب اللجوء. كما أخذت تلك الحكومات والمنظمات تستشير المجتمع المدني في معظم الأحوال، إلا أن الدنمارك كانت سباقة في دفعها لمبالغ لمجلس اللاجئين الدنماركي وهو منظمة غير حكومية معنية بحماية اللاجئين وحقوقهم، حتى ينضم إلى بعثات تقصي الحقائق وليشارك في كتابة تقارير على تلك الشاكلة بحسب ما أورده خبراء في هذا الشأن.
تأسس المجلس الدنماركي للاجئين في خمسينيات القرن الماضي ليكون منظمة مظلة لمنظمات اللاجئين في الدنمارك، أي أن لديه باعاً طويلاً في العمل عن كثب مع الحكومة الدنماركية التي تعتبر من كبار مموليه. ولقد خلق هذا التقرير الذي صدر حول سوريا حالة جدل شديدة داخل المنظمة حول الفوائد التي تحققها من علاقتها الوثيقة مع الحكومة التي تصرح علناً بأن هدفها هو استقبال أقل عدد ممكن من اللاجئين في البلاد.
تحدثت صحيفة نيو هيومانيتيريان إلى تسعة مسؤولين سابقين وحاليين لدى المجلس الدنماركي للاجئين حول هذا التقرير، فتحدث بعضهم شريطة عدم الكشف عن هويته. إذ يقف في الطرف الأول ضمن الجدال الدائر ضمن تلك المنظمة الكادر العامل لديها والذي يعتقد بأن المجلس الدنماركي للاجئين بوسعه أن يؤثر على السياسة من الداخل بشكل إيجابي وذلك عبر الاحتفاظ بعلاقة وثيقة مع الحكومة، ومن جهة أخرى هنالك من يعتقدون بأنه تم استغلال مشاركة المجلس الدنماركي للاجئين لشرعنة أقسى سياسة ضد السوريين في أوروبا، مع القيام بنزر يسير من العمل للمساعدة في حماية اللاجئين، هذا إن قام ذلك المجلس بحمايتهم أصلاً.
تحرت صحيفة نيو هومانيتيريان حول قصة مشاركة المجلس الدنماركي للاجئين في صياغة هذا التقرير، وذلك من خلال مقابلات وسجلات عامة وتقديم طلبات من أجل حرية المعلومات، إلا أن تلك المشاركة ما هي إلا مثال صارخ عن الورطة التي ظهرت عندما انحرفت مهمة منظمة إنسانية وسياسة الحكومة الشريكة (والممولة) لها عن مسارها إلى حد بعيد.
يرى المجلس الدنماركي للاجئين بأن علاقته مع الحكومة لا تؤثر على عمله في إعداد تقارير حول معلومات البلد الأصلي، كما أن تقارير نيو هيومانيتيريان لم تتوصل إلى أي دليل يثبت وجود تلاعب سياسي في صياغة ذلك التقرير عن سوريا، ولكن بناء على الظروف بكاملها، يرى بعض المسؤولين السابقين والحاليين في المجلس الدنماركي للاجئين أن الوقت قد حان لإعادة النظر بالأمر.
يقول السياسي الدنماركي كريستيان فريس باخ الذي شغل منصب الأمين العام للمجلس الدنماركي للاجئين عندما صدر ذلك التقرير حول سوريا: "بناء على الطريقة التي تم من خلالها تسييس تلك الناحية إلى حد كبير، أتساءل لم يتعين على المجلس الدنماركي للاجئين مواصلة إصدار التقارير حول اللجوء بالتعاون مع السلطات؟ فقد كان ذلك نقاشاً مفتوحاً ومهماً في حينه، إذ كنا نحاول أن نتوازن ونحن نقف على حد السيف فيما يتصل بهذا الموضوع"، غير أن هذا الرجل طرد من المجلس الدنماركي للاجئين في عام 2019.
عودة سريعة إلى دمشق
في عام 2015، أي في الوقت الذي فر فيه عدد قياسي من السوريين بسبب الحرب إلى أوروبا، أصدرت الدنمارك قانوناً يمنح وضعاً مؤقتاً لمن هربوا من العنف العشوائي، بدلاً من الاضطهاد على المستوى الشخصي، وقد تم تطبيق هذا القانون في نهاية الأمر على نحو 4700 شخص من بين 35 ألف سوري تقريباً موجودين في الدنمارك. وبموجب هذا القانون، قد يتعرض من منحوا حق الحماية المؤقتة لخطر خسارتهم لهذا الوضع بمجرد أن يتحسن الوضع الأمني على الأرض في بلدانهم الأصلية، حتى لو بقيت الظروف هناك "هشة وغير مضمونة".
وبحلول عام 2018، أصبح للنظام في سوريا اليد العليا في الحرب السورية، وذلك بدعم من روسيا وإيران. ولذلك طلبت إدارة الهجرة الدنماركية من المجلس الدنماركي للاجئين الانضمام إليها في رحلة إلى دمشق لتقصي الوضع الأمني، وتم ذلك في شهر آذار من ذلك العام.
وبالرغم من سلسلة الانتصارات المزعومة وقتئذ، بقي نظام الأسد يحارب مقاتلي المعارضة في ريف دمشق، ولذلك أشارت بعثة تقصي الحقائق إلى أن الوضع في العاصمة "قد تدهور" مقارنة بما كان عليه في عام 2017.
ولكن وبعد مرور شهرين على ذلك، أعلن النظام في سوريا سيطرته الكاملة على دمشق وريفها لأول مرة منذ بداية الحرب في عام 2011.
وقبل نشر النتائج الأولية التي توصلت إليها تلك البعثة، طلبت إدارة الهجرة الدنماركية تقييماً آخر "بأقصى سرعة ممكنة" بحسب الرسائل الإلكترونية التي تم الحصول عليها بموجب طلب حرية المعلومات. وفي الزيارة الثانية التي قام بها المجلس الدنماركي للاجئين مع موظفي إدارة الهجرة في تشرين الثاني 2018، اكتشف هؤلاء بأن الوضع الأمني في دمشق قد تحسن "إلى حد كبير".
وحول ذلك يخبرنا توماس غاميلتوفت-هانسن وهو أستاذ جامعي يدرس القانون الدولي للهجرة واللجوء في جامعة كوبنهاغن، فيقول: "لعل تحسناً لحظياً قد طرأ وقتئذ على الوضع الأمني، إلا أن ذلك يجب ألا يفضي إلى أي نتيجة بالضرورة. فقد كان من الواضح بأن الحكومة متحمسة لاستغلال الوضع الممكن في تلك اللحظة من الزمن".
غير أن عواقب ذلك وقعت على السوريين في الدنمارك على الفور، إذ صرحت وزيرة الهجرة الدنماركية السابقة إنغر ستولبيرغ وقتئذ: "إنني مسرورة لتحسن الظروف في بعض أجزاء سوريا"، ثم أعلنت بأن التقرير سينشر في شباط 2019، وقالت: "عندما تنتفي الحاجة للحماية، عندئذ ينبغي على المرء أن يعود إلى بلده ليسهم في إعادة إعمارها". وقد تم توجيه لائحة اتهام إلى تلك الوزيرة فيما بعد، وخلال الشهر الماضي حكم عليها بالسجن لمدة شهرين وذلك بسبب سياسة الهجرة المتشددة المختلفة التي فرضتها.
وبعد أسبوع من نشر تقرير حول معلومات البلد الأصلي، أعلنت إدارة الهجرة الدنماركية عن بدء رفضها لطلبات تمديد الإقامة للاجئين الذين تعود أصولهم لدمشق.
انتقد المجلس الدنماركي للاجئين هذا القرار، كما فعل عندما صدر القرار الدنماركي الخاص بالحماية المؤقتة، الذي رأى فيه قراراً يهدف لتقليص فترات الحماية. إلا أن إدارة المنظمة أصرت على أن المجلس الدنماركي للاجئين محق في إصدار ذلك التقرير، حتى مع معرفتها بأنه سيتم استغلاله ضد السوريين في الدنمارك.
وعن ذلك تقول إيفا سينغار وهي رئيسة قسم اللجوء في المجلس الدنماركي للاجئين الذي يعمل على تقارير حول معلومات عن البلد الأصلي: "لقد تغيرت الأوضاع في دمشق، وأعتقد أنه كان بوسع أي شخص ملاحظة هذا في ذلك الحين، ثم إننا كنا نعرف كيف ستفسر السلطات الدنماركية ذلك. وهذا بالضبط ما اعتقدنا أنه مهم ولذلك سعينا لإضافته إلى التقرير وأعني بذلك ضمان وجود أكبر قدر ممكن من الفويرقات فيه".
كان من الطبيعي بالنسبة لإيفا سينغار إرسال بعثتين للتقصي إلى البلد ذاته، إلا أنها اعترفت بأنه "من غير الطبيعي" طلب تقرير ثان بعد صدور الأول بفترة قصيرة.
يذكر أن المجلس الدنماركي للاجئين رفض إجراء مقابلة مع أمينته العامة تشارلوت سلينتي التي تعتبر أعلى مسؤولة تنفيذيه فيه، وأرسل عوضاً عن ذلك بياناً خطياً، ولدى سؤال الأمينة العام عن الفويرقات التي قدمها المجلس في التقرير، أجابت بأنه يستحيل إيراد أي مثال محدد حول ذلك، حيث كتبت: "ما نزال نعتقد بأن التقرير خرج بصورة أفضل بفضل مشاركتنا، ولا نجد أي إشارة إلى أن عدم مشاركة المجلس تعني حرمان عدد أقل من السوريين من تجديد إقاماتهم".
"كان الأمر صادماً"
كانت سارة الدرع أول شخص في أسرتها يقرأ الرسالة الإلكترونية التي وصلت من إدارة الهجرة الدنماركية في شباط 2021 والتي ورد فيها بأن إقامة والدها لن يجري تمديدها، وبالتبعية إقامة زوجته وأولاده الثلاثة، وعن ذلك تخبرنا تلك الطالبة في الثانوية التي لم يتجاوز عمرها 19 ربيعاً فتقول: "كان الأمر صادماً جداً".
أكد المجلس الدنماركي للاجئين على أن التقرير عن معلومات البلد الأصلي الصادر في عام 2019 هو عبارة عن مجموعة من الشهادات المأخوذة من مصادر وخبراء وبأنه لم يقم بأي توصية حيال إمكانية العودة الآمنة للسوريين الذين تعود أصولهم إلى دمشق وريفها. إلا أن هذا التقرير تم إيراده كأول دليل في الرسالة التي وجهتها إدارة الهجرة الدنماركية إلى والد سارة.
كانت سارة قد أقامت في الدنمارك بصحبة أسرتها منذ ست سنوات، إلا أنه ورد في تلك الرسالة الآتي: "لقد سيطرت السلطات السورية على منطقتكم الأصلية، كما طرأ تحسن على الظروف في دمشق".
بيد أن سارة وأسرتها لم يهربوا بسبب العنف العام في دمشق، بل إنهم رحلوا بسبب خوفهم من النظام، إذ تعرض أحد أبناء عمومة والد سارة للاعتقال في بدايات الحرب، وفي اليوم التالي تم تسليم جثته لذويه. بعد ذلك تم التعرف إلى جثته ضمن كنز من الصور التي سربها أحدهم من داخل سجون الأسد.
وهنا يخبرنا والد سارة محمد طارق الدرع الذي كان محامياً في سوريا بأنه عندما تقدم بالتماس للسلطات في سوريا للحصول على معلومات بشأن قريبه حذره أحد ضباط المخابرات بالقول: "كف عن السؤال وإلا فستلحق به".
وتعلق سارة على ما حدث بقولها: "إن عدنا فسيقتلوننا على الفور... على الفور".
إلا أن المجلس الدنماركي للاجئين يرى أنه لا يحق للسلطات الدنماركية أن تبني قراراتها بشأن طلب اللجوء على تقرير حول معلومات عن البلد الأصلي فقط، وأشار إلى بيان أحد القضاة الدنماركيين والذي ورد فيه بأنهم يعتمدون على مصادر متعددة، إلا أن ذلك التقرير الذي شارك المجلس الدنماركي للاجئين بكتابته ما يزال يؤثر على قضية عائلة الدرع.
يذكر أن نصف اللاجئين تقريباً الذين ألغيت إقاماتهم نجحوا في الطعن بذلك القرار، إلا أن الطعن الذي تقدم به محمد طارق قوبل بالرفض في تموز الفائت، حيث استشهد القاضي مجدداً بذلك التقرير ليشرح سبب ضرورة عودته إلى دمشق، ويتذكر محمد طارق ما جرى وقتئذ فيقول: "قلت له: إن تقريركم غير صحيح، إلا أن القاضي رد علي بقوله: لا يهمني فهذا ليس من شأني".
تقدمت سارة ووالدتها بطلب جديد مشترك للحصول على اللجوء، إلا أن والدها وشقيقيها الأصغر منها سناً أبلغوا بضرورة انتقالهم إلى أحد مراكز العودة في الدنمارك خلال فترة قصيرة، وتصف منظمات حقوقية تلك المراكز بأنها "غير مناسبة لاستقبال أشخاص"، وذلك بسبب ظروف الصرف الصحي السيئة فيها، ولاعتمادها على الحبس الانفرادي كوسيلة لمعاقبة من يرتكبون مخالفات صغيرة، كحيازة هاتف محمول مثلاً.
ثم إن من ينقل إلى هناك من السوريين يعيش مأساة مؤلمة، إذ لا يسمح لهم بالعمل أو المشاركة في المجتمع، بل يتركون هناك لينتظروا قرار ترحيلهم إلى أجل غير مسمى، وهذا القرار قد لا ينفذ فعلياً لعدم وجود علاقات دبلوماسية بين الدنمارك وسوريا، ولهذا لا يمكن للدنمارك أن تنسق عمليات الترحيل مع النظام في سوريا.
يتحدث محمد طارق عن تلك المراكز فيقول: "سأذهب إلى هناك وحدي، من دون أولادي أرجوكم... لأن ذلك المكان أسوأ من السجن".
تقرير معطوب؟
ذكر العديد من الموظفين السابقين لدى المجلس الدنماركي للاجئين ممن تعاملوا مع لاجئين سوريين بأنهم حذروا تلك المنظمة من مغبة التعامل مع إدارة الهجرة الدنماركية في ذلك التقرير، حيث يقول أحد المتخصصين السابقين في الشأن السوري لدى المجلس وهو يتذكر كيف سألوا مديريهم في كوبنهاغن في عام 2018: "لم يضع المجلس الدنماركي للاجئين اسمه على شيء من الواضح أنه سياسي بطبيعته؟"
ويحدثنا موظف سابق متخصص بشؤون الشرق الأوسط بأنهم إما لم يتم إبلاغهم عن دور المنظمة في ذلك التقرير، أو قوبلوا بالصد عندما تقدموا باقتراحات حول الأشخاص الذين لا بد من إجراء مقابلات معهم. كما تحدث هؤلاء شريطة عدم الكشف عن أسمائهم بما أن معظمهم ما يزال يعمل في المجال الإنساني، وهم يخشون من أن يكون لما يقولونه تبعات سلبية على عملهم.
وبمجرد أن بدأ قسم اللجوء لدى المجلس الدنماركي للاجئين بالعمل على التقرير، سعى جاهداً لإقناع إدارة الهجرة بإبعاد تركيزها عن انحسار النزاع العسكري حتى يشمل المزيد من المعلومات حول الأخطار التي قد يواجهها من يعود من اللاجئين على يد النظام في سوريا، وذلك بحسب الرسائل الإلكترونية التي تم تبادلها داخل المنظمة.
إذ كتب أحد المسؤولين في المجلس الدنماركي للاجئين مخاطباً ماجد بهبهاني وهو كبير المستشارين لدى وحدة معلومات البلد الأصلي التابعة لإدارة الهجرة قبل الرحلة التي تمت في تشرين الثاني عام 2018: "علي أن أكرر مجدداً بأني أعتقد بأننا غطينا أنفسنا بشكل جيد بوساطة المصادر حول الوضع الأمني، لذلك لا أرى حاجة إلى المزيد منها. إذ لا تتوافر سوى معلومات قليلة للعامة حول مشكلات العودة، وعندما لا تتوافر إلا معلومات قليلة، عندئذ من الضروري إضافة المزيد من المصادر".
وفي نهاية الأمر، استسلم المسؤول في المجلس الدنماركي للاجئين وقال: "من الواضح بالنسبة لي بأننا لا يمكن أن نتفق حول هذه النقطة، لذا لا يعقل أن أواصل إصراري عليها".
إلا أن المسؤولين لدى إدارة الهجرة رفضوا مناقشة محتوى التقرير أو علاقتهم بالمجلس الدنماركي للاجئين الموثقة في السجلات، وأرسلوا عوضاً عن ذلك بياناً خطياً أكدوا فيه استقلالية عملهم.
وفي الرد الخطي الذي أرسلته تشارلوت سلينتي ذكرت بأنه تم إبلاغ أرفع الموظفين لديها عن التقرير، وبأنهم لا يمكنهم مناقشة طريقتهم الخاصة بانتقاء المصادر على الملأ، نظراً لحساسية الوضع الأمني في سوريا.
وبعدما بدأت عملية إلغاء الإقامة للاجئين السوريين، صرح تقريباً كل شخص أجرى معه المجلس الدنماركي للاجئين مقابلة لتضاف إلى سجله من أجل ذلك التقرير ضد هذا المجلس وانتقده. كما نشر ثمانية من المصادر بياناً مشتركاً في آذار الماضي انتقدوا فيه تلك الوثيقة التي وصفوها بالـ"معطوبة" وكيف أشارت إلى مساهماتهم بأنها: "لا تستحق الكثير من التقدير".
يقول بينتي شيلار وهو أحد المصادر التي استشهد التقرير بها، ورئيس لقسم شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى مؤسسة هينريتش بول ستيفتانغ الألمانية: "أحسست بصدمة ولم أصدق بأن شهادتي بكاملها قد تمت إعادة صياغتها بطريقة بدت في النهاية وكأنها تعني عكس ما قلته".
"من الواضح أن خطأ ما قد حدث"
قام جدل كبير حول تقارير الدنمارك عن معلومات حول البلد الأصلي قبل ذلك، إذ سبق للدنمارك أن ألغت إقامات مئات الصوماليين بموجب قانون عام 2015 الذي يجري تطبيقه اليوم على السوريين. وقد أتى ذلك عقب انتقاد بعثة تقصي الحقائق في عام 2015 والتي أرسلتها إدارة الهجرة الدنماركية وذلك بسبب عدم مبارحتها للمنطقة المحيطة بمطار مقديشو، بالإضافة إلى البعثة المشتركة مع المجلس الدنماركي للاجئين التي قامت بمهامها في عام 2017 من كينيا لدواع أمنية.
وكما حدث بالنسبة لسوريا، فقد صرح المجلس بأن السلطات استعانت بالتقرير لتلغي إقامات الصوماليين، في حين رفضت الحكومة الدنماركية أن تؤكد عدد الصوماليين الذين تم ترحيلهم منذ ذلك الحين بموجب اتفاقية سرية عقدتها مع مقديشو، إلا أن ناشطين ومدافعين عن حقوق اللاجئين يعتقدون بأن الكثير منهم هربوا إلى دول أوروبية أخرى.
وعن ذلك تحدثنا ميكالا بينديكسن وهي مؤسسة منظمة رحبوا باللاجئين الخيرية الشعبية في الدنمارك، فتقول: "بوسع المجلس الدنماركي للاجئين ممارسة بعض النفوذ والتأثير على هذه العملية، إلا أن ذلك وحده لا يكفي، إذ عليهم أن يدركوا ذلك منذ الآن".
إذ بالنسبة لميكالا، فإن تمويل المجلس الآتي من إدارة الهجرة يمثل تضارباً صارخاً في المصالح، إذ تعتبر الحكومة الدنماركية ثالث أكبر مساهم في الميزانية السنوية للمجلس التي وصلت إلى 500 مليون دولار في عام 2020، ويشمل ذلك التمويل مبلغاً وقدره 6.3 مليون دولار تقريباً تأتي من إدارة الهجرة الدنماركية وذلك للعمل في الدنمارك، مثل تقييم طلبات اللجوء الصعبة، بالإضافة إلى مبلغ 80 ألف دولار مخصصة لإصدار تقارير حول معلومات عن البلد الأصلي.
وتعلق ميكالا على ذلك بقولها: "إنها لورطة كبيرة عندما تتعارض أهداف منظمة ما مع أهداف الحكومة، خاصة إذا كانت تلك الحكومة تمولها في الوقت ذاته".
في حين يرى المجلس الدنماركي للاجئين بأن تمويل الحكومة لا يؤثر على استقلاليته، ففي الوقت الذي استطاعت فيه تلك المنظمة أن تشير إلى الانتقادات الشعبية لسياسات الهجرة الدنماركية، اعترفت رئيسة قسم اللجوء أيضاً بأن تعاون تلك المنظمة "يشرعن ذلك التقرير إلى حد ما".
وشرحت ذلك بالقول: "إذن من الواضح أننا نقف في وجه أي فرصة لتقديم محتوى ذي قيمة والتأثير عليه، وتلك حقيقة من حقائق الحياة ما علينا إلا أن نتقبلها، وينطبق هذا الأمر أيضاً علينا عندما نشارك في قضايا أخرى تتصل باللجوء في الدنمارك".
غير أن المجلس لم يرفض ألبتة أي طلب تقدمت به إدارة الهجرة للعمل على إصدار تقرير مشترك عن معلومات البلد الأصلي، إلا ما تم رفضه لدواع أمنية تتعلق بموظفي المجلس بحسب ما ذكرته مديرة ذلك القسم.
"إنهم ينتقون الكلمات ويختارونها بعناية"
في الوقت الذي أصبحت فيه السياسات الدنماركية حيال الهجرة متشددة، توترت العلاقة التي بقيت وثيقة على مدى التاريخ بين المجلس الدنماركي للاجئين والجهات المسؤولة عن تقديم ملفات اللجوء في الدنمارك، وذلك بحسب ما ذكره خبراء دنماركيون مختصون بالهجرة.
إذ يخبرنا البروفسور غاميلتوفت-هانسن أستاذ القانون بجامعة كوبنهاغن، والذي عمل أيضاً لدى المجلس الدنماركي للاجئين فيما مضى، فيقول: "تختلف عادات المنظمات غير الحكومية في الدنمارك عن غيرها في باقي الدول، إذ كانت العلاقة التي تربط بين المجلس والسلطات ودية وبعيدة عن المواجهة والصدام، ولكن مع فرض سياسة الهجرة الدنماركية لقيود أكبر... تغيرت تلك العلاقات".
أما فريس باخ الأمين العام السابق للمجلس، فيقول: "من الواضح أن خطأ ما قد حدث، لأن قضية مثل هذه لا بد أن تدفع نحو تفكير جدي حول بقاء المرء عضواً في بعثة كهذه من عدمه".
في تلك الآونة، بدأت منظمات حقوقية بملء الفراغات بمعلومات حول ما يحدث للاجئين في حال عودتهم إلى سوريا، حيث نشرت هيومن رايتس ووتش تقريراً في تشرين الأول الماضي يوثق 17 حالة اختفاء قسري بين صفوف لاجئين فور عودتهم إلى سوريا، في حين وثقت منظمة العفو الدولية 66 حالة للاجئين تم اعتقالهم وتعذيبهم أو تعرضهم لانتهاكات على يد النظام فور عودتهم. ولا تمثل تلك الأرقام الأعداد النهائية الشاملة.
إذ ذكرت سيدة لمنظمة العفو بأنها هي وابنتها البالغة من العمر خمس سنوات تعرضتا للاغتصاب من قبل ضابط أمن سوري على أحد الحواجز، وذلك بعدما قال لها: "سوريا ليست فندقاً حتى تغادريه وتعودي إليه عندما ترغبين بذلك".
وفي الدنمارك، أصبحت أسرة سارة الدرع تعيش على الاستدانة من الأقارب بعدما قام الأب بإغلاق مطعمه الذي افتتحه هناك، كما أصبحوا يعيشون في خوف من أن يتم التفريق بينهم في حال تم نقل محمد طارق وولديه إلى مركز للعودة، إذ ما يزال التهديد بالترحيل يلوح أمامهم.
أبلغت إدارة الهجرة الدنماركية محمد طارق أنه سيجري إعادته إلى سوريا قسراً "عندما تصبح الظروف مواتية"، وبأنه "لن يتم إبلاغه عن موعد العودة" بحسب ما ورد في النص المكتوب لاجتماع رسمي جرى بينه وبين تلك الوكالة.
ويعلق هذا الرجل على ذلك بقوله: "إنهم يعرفون بأنني لست ثرياً وبأن مالي سينفد في نهاية الأمر، وعندئذ علي أن أرحل، ولكن إن ترتب علي الرحيل فسأرحل إلى أي بلد آخر غير سوريا".
أما بالنسبة لتقرير حول معلومات عن البلد الأصلي الذي قلب حياته التي حاول أن يبنيها في الدنمارك رأساً على عقب، فيعلق قائلاً: "إنهم ينتقون الكلمات ويختارونها بعناية، فلو سألتني: هل دمشق آمنة؟ فسأرد: أجل إنها آمنة، ولكن ليس بالنسبة لنا، بل بالنسبة لبشار الأسد وجماعته فحسب... أي أنني أعطيك مئة كلمة لكنك لا تختار منها إلا خمساً وهي: يقول محمد طارق إن دمشق آمنة".
المصدر: نيو هيومانيتيريان